السلطة التقديرية بين القضاء الإداري والإدارة

تعتبر السلطة التقديرية في حق جهة الإدارة، البحبوحة الواسعة التي يتمتع بها رجل الإدارة في إصدار القرارات وإبرام العقود وكامل التصرفات الإدارية، وعند تحجيمهما يكون العمل مقيداً وفقاً لهذا الأسلوب من العمل الإداري، لذلك نجد أن السلطة التقديرية من مقتضيات العمل، بل تعتبر من الضروريات في الحياة الإدارية، ومن دونها تكون جهة الإدارة عاجزة عن الإبداع والتجديد، وتأتي أهمية السلطة التقديرية من حيث إن المشرع يضع قواعد عامة مجردة فلا يستطيع أن يتنبأ بجميع الحالات الخاصة التي تحكمها هذه القواعد، فلذلك يجب أن تترك للإدارة معالجة الحالات الواقعية ووزن ظروفها وملابساتها، لأنها أكثر احتكاكاً بالأفراد وأقرب إلى الجمهور.
ولذلك منح المشرع للإدارة هذه السلطة شعوراً منه بأنها أقدر على اختيار الوسائل المناسبة للتدخل واتخاذ القرار الملائم في ظروف معينة، وأنه مهما حاول تصور كل الأمور الإدارية فلا يستطيع أن يتصور جميع الحالات التي قد تطرأ في العمل الإداري ويرسم الحلول المناسبة لها، فالسلطة التقديرية ضرورة لحسن سير العملية الإدارية وتحقيق غايتها، فالسلطة التقديرية لجهة الإدارة ضرورة اجتماعية فيما يتعلق بعلاقة الإدارة بالتشريعات وأيضا فيما يتعلق بعلاقتها بالقضاء.
ومن الأسئلة التي تبرز فيها السلطة التقديرية للإدارة ما يتعلق بصلاحيتها في النقل المكاني لموظفيها وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة، وكذلك فيما يتعلق بحريتها في منح أو منع دخول الأجانب أراضيها والإقامة فيها، وكذلك تكليف رؤساء الأقسام والفروع فيما ليس فيه شروط يتطلب استيفاؤها.
وكل ما تقدم لا يعني أن كل أنواع السلطة متاحة لجهة الإدارة، بل هناك سلطة تقديرية مقيدة مثل تحديد سن التقاعد، فجهة الإدارة تلتزم بإحالة من بلغ السن النظامية للتقاعد على المعاش. وليس لجهة الإدارة أي خيار لأن السلطة التقديرية في هذه الحالة آمرة التصرف من قبل القانون وليس لها أي حرية في التقدير، ومثل مدة الإجازات للموظف محددة سلفاً في النظام، إنما يأتي دور الإدارة في صلاحية توقيت منحها، وتعتبر السلطة التقديرية لرجل الإدارة ذات مرونة واسعة في القانون الإداري، فقد تكون أداة للتطوير الإداري وقد تكون أيضاً أداة للتربح الوظيفي والاستغلال غير المشروع لها ويبقى على الجهات الرقابية دور المراقبة فقط، وعند توافر الأدلة على ارتكاب الأخطاء الإدارية يأتي دور هيئة الرقابة والتحقيق في المخالفات الإدارية والمالية، وإذا قامت أدلة الاتهام يصدر قرار اتهام بحق المتهم ويحال إلى ديوان المظالم سواء في الدوائر التأديبية أو الدوائر الجزائية حسب نوع المخالفة واختصاصها.
السلطة التقديرية أداة يتمتع بها رجل الإدارة من خلال منح الإدارة هذا الامتياز لمواجهة الأفراد والقضاء في حدود المصلحة العامة، تاركا القانون لها حرية الاختيار في وقت تدخلها ووسيلة التدخل وتقدير خطورة بعض الحالات، وأشير إلى أن علاقة السلطة الإدارية بالقضاء الإداري غير واضحة المعالم لدى بعض المختصين، وذلك إما بإفراط من جانب القضاء الإداري بالتدخل في تلك السلطة، وعندها يحل القاضي الإداري محل جهة الإدارة في تقدير المواءمة للعمل والمصلحة العامة لجهة الإدارة، ولا شك أن هذا خطأ قضائي لأن فيه تدخلا في أعمال الإدارة، وغالباً ما يتم نقض هذه الأحكام من قبل محكمة الاستئناف الإداري، لأن القضاء يحكم ولا يدير كما هو مقرر في مبادئ القانون والقضاء الإداري.
وعلى النقيض من ذلك نجد تفريطا أحياناً من جانب القضاء الإداري في القيام بدوره عند صدور قرارات تعسفية بحجة أن هذا متروك للسلطة التقديرية، فقيام القرار الإداري دون سبب مشروع سبب لتدخل القاضي الإداري في إلغائه لاشتمال القرار على عيب السبب، ويقاس على ذلك كل الأحوال التي يكون القرار الإداري فيها معيباً، خاصةً عيب المحل وعيب الانحراف بالسلطة عن الغاية النظامية، ومع ذلك تجد قلة من القضاة يؤثرون الراحة والدعة في أسلوبهم في نظر القضايا، وذلك برفض الدعاوى في مثل هذه الأحوال، وبين هؤلاء ومن سبقهم النمط السائد للقضاة الذين يقررون فيه المبدأ الأصلي في أن دور القاضي الإداري مراقبة المشروعية والتأكد من صحة الإجراءات والغايات، وأما تقدير المواءمة في قرارات جهة الإدارة فتترك للجهة لاعتبارين:
الاعتبار الأول أن القاضي الإداري يكون عادة بعيداً عن المكان الذي تتم فيه الوقائع التي تستلزم تدخل الإدارة.
الاعتبار الثاني أن القاضي تنقصه الخبرة الإدارية الخاصة الكافية لمواجهة الحالات التي تعرض للإدارة، كما أنه لا يحيط تمام الإحاطة بالوسائل التي تتخذها الإدارة لدرء مثل هذه الحالات.
وموضوع السلطة التقديرية ذو شجون ومتعدد الاتجاهات بين القانون والقضاء الإداري وعلم الإدارة العامة، لكن ما ذكرناه سابقاً يرتبط بالصبغة القضائية القانونية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي