أوباما ونظرية الحدود الإسرائيلية (3)
ثار جدل حول معنى عبارة (الحدود الآمنة) الواردة في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 لسنة 1967، ففي تصريح أدلى به بتاريخ 5/6/1969 فسر أبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك عبارة (الحدود الآمنة) بأنها (الحدود التي يمكن الدفاع عنها)، ثم شاعت بعد ذلك هذه العبارة في تصريحات القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، ورددها أخيراً بنيامين نتنياهو في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي، وأعلن قادة إسرائيل أن القرار 242 لا يلزمها بالانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وأنه يخولها المطالبة بحدود أوسع من خطوط الهدنة السابقة، لأن عبارة (الحدود الآمنة) تعني من وجهة نظرهم حدوداً جديدة وأوسع من خطوط الهدنة. ولقد فند عدد كبير من الفقهاء والباحثين في مجال القانون الدولي المفاهيم الإسرائيلية المذكورة آنفا، ومنهم الدكتور إبراهيم شحاتة الذي ألف كتاباً قيماً خاصاً بهذا الشأن بعنوان (الحدود الآمنة والمعترف بها) حيث قال فيه ما يلي:
(أما الادعاء بأن الحدود ''الآمنة'' هي بالضرورة حدود جديدة وأوسع من الخطوط السابقة، فهو يقرأ في القرار ما ليس فيه قطعاً، بل وما يتعارض مع نصوصه الأخرى التي تمنع اكتساب الإقليم بالحرب، وتنص على احترام سلامة أراضي كل دولة في المنطقة، وتشير إلى الالتزامات الواردة في المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة. كما أنه يفترض، مع كل الحجج الإسرائيلية الأخرى، أن الأمان مقرر لمصلحة طرف واحد على حساب الأطراف الأخرى، ثم أنه يتأسس على واقعة غير قائمة، وهي أن الحروب العربية - الإسرائيلية الثلاث أثبتت عدم توافر الأمان لإسرائيل ضمن خطوط الهدنة السابقة. ويكفي، دون الخوض في أسباب هذه الحروب، أن نشير إلى الحقائق المسلمة من أن حرب 1948 بدأت قبل أن توضع خطوط الهدنة المذكورة، وأن حرب 1956 بدأت بغزو القوات الإسرائيلية لمصر بناء على اتفاق مسبق مع الحكومتين الفرنسية والبريطانية، وأن حرب 1967 بدأت أيضاً بالهجوم الإسرائيلي. لم يدّع أحد، سواء في 1956 أو 1967، أن القوات العربية عبرت خطوط الهدنة، كما أن التجربة أثبتت أن هذه القوات لم تشكل، في الحالتين، خطراً حقيقياً على إسرائيل، بل بالعكس أثبتت هذه الحروب جميعاً أن أي بحث، في المستقبل، في الحدود الآمنة، يجب أن يأخذ في الاعتبار ضمانات الأمن للدول العربية التي تعرضت للغزو والهزيمة عدة مرات منذ وضع خطوط الهدنة السابقة، التي لم تعبر أي قوات نظامية لها هذه الخطوط إلى الجانب الإسرائيلي في أي وقت مضى، وأضاف قائلا: (ومن ناحية أخرى، فإن الربط بين الانسحاب والحدود الآمنة، واعتبارهما جانبين من عملية واحدة، يقحمان أيضاً في قرار مجلس الأمن حكماً غير وارد فيه، حيث إن القرار يتكلم عن الانسحاب كعملية مستقلة تماماً عن وضع الحدود النهائية بين إسرائيل والدول المجاورة لها. والانسحاب لا يكون طبقاً للقرار إلى ''الحدود الآمنة''، وإنما ''من الأراضي التي احتلت''. فإعادة الحال إلى ما كانت عليه status quo ante هي إذن الغرض من الانسحاب، وهي الخطوة الأولى وليست الأخيرة نحو تحقيق الوضع القانوني status juris الذي لا يقبل، بطبيعته، اكتساب إسرائيل أراضي ليس لها حق قانوني صحيح فيها).
والواقع أن نظرية الحدود الآمنة أو التي يمكن الدفاع عنها لا تفتقر إلى أساس قانوني سليم فحسب، بل تفتقر أيضاً إلى الأساس الواقعي لأن العامل الجغرافي تقلص دوره في الحروب الحديثة بسبب التطور الحديث في الأسلحة، سواء في مجال الصواريخ والمدفعية البعيدة المدى أو في مجال الطيران، بل إن إسرائيل التي تدعي أن حدود 1967 لا يمكن الدفاع عنها، قد تمكنت انطلاقاً من هذه الحدود أن تشن حرب 1956 ضد مصر وحرب 1967 ضد مصر وسورية والأردن، وحربي 1982 و2006 ضد لبنان، فكيف تمكنت إسرائيل من شن هذه الحروب العدوانية من تلك الحدود التي تدعي أنه لا يمكن الدفاع عنها؟! وجدير بالذكر أن بعض الساسة في الغرب رفض نظرية الحدود الآمنة الإسرائيلية، وأسوق على ذلك مثالاً تصريح وليم روجز وزير الخارجية الأمريكي الذي أدلى به في 9/12/1969، حيث قال (إن أمن إسرائيل يتحقق بالضمانات وليس بالجغرافيا). يضاف إلى ذلك أن القبول بالنظرية الإسرائيلية الخاصة بالحدود الآمنة أو التي يمكن الدفاع عنها سيؤدي إلى فسخ وتمزيق اتفاقيات وخرائط الحدود الدولية الموقعة بين معظم دول العالم وطلب إعادة تحديد هذه الحدود على أساس هذا المفهوم المدمر للأمن والسلم الدوليين.
والواقع أن النظرية الإسرائيلية للحدود الآمنة أو التي يمكن الدفاع عنها أشبه بنظرية المجال الحيوي الألمانية في عهد أدولف هتلر، التي كانت تدعو إلى التوسع الإقليمي الألماني على حساب الدول الأوروبية المجاورة بذرائع الاحتياجات الدفاعية والاقتصادية، وكانت سبباً رئيساً من أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية وما ترتب عليها من جرائم خطيرة ضد الإنسانية.
لقد أفرغ الرئيس الأمريكي باراك أوباما تصريحه حول إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967 من مضمونه عندما تبنى المطلب الإسرائيلي بإجراء تبادل للأراضي بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، والأخذ في الاعتبار التغيرات السكانية التي أحدثتها إسرائيل في الأراضي المحتلة. وتقصد إسرائيل من هذا المطلب أن تضم إليها جميع أراضي الضفة الغربية التي أقامت عليها مستوطنات يهودية مقابل أن تنضم إلى الدولة الفلسطينية المنطقة المعروفة باسم (المثلث) التي يعيش فيها نحو 200 ألف عربي من فلسطين 1948، وبهذا الإجراء تتمكن إسرائيل من التخلص من معظم سكانها العرب وتحقيق شعار (يهودية) دولة إسرائيل. وسبق لي أن فندت نظرية تبادل الأراضي في مقالي المنشور في جريدة ''الاقتصادية'' بتاريخ 9/10/2010 بعنوان (ليبرمان ونظرية تبادل الأراضي المسكونة)، وأوضحت أن هذه النظرية تتعارض مع جميع القرارات التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي التي تدعو إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967 بما في ذلك القدس والضفة الغربية، وتقرر عدم شرعية المستوطنات اليهودية التي أقامتها إسرائيل على هذه الأراضي.
لقد أثلجت تصريحات الرئيس أوباما صدور الصهاينة، وتعبيراً عن امتنانهم العميق لهذه التصريحات فقد سمحت الحكومة الإسرائيلية لجمعية صهيونية متطرفة بإطلاق اسم (أوباما) على مستوطنة جديدة تجعل إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً مهمة مستحيلة، لأن المنطقة التي ستقام عليها هذه المستوطنة تقطع الطريق الرئيس الذي يربط شمال الضفة الغربية بجنوبها. وهذا يعني أن الهدف من إقامة هذه المستوطنة فصل شمال الضفة عن جنوبها بشكل نهائي. وتأتي إقامة هذه المستوطنة ضمن مشروع تهويد القدس الهادف إلى زيادة عدد اليهود في القدس ومحيطها إلى مليون يهودي.
إن مقولة الأخذ في الاعتبار بالتغيرات السكانية هي منطق يأباه العدل والإنصاف والفطرة السليمة، وأود هنا أن أسأل الرئيس أوباما، الذي درس القانون ودرسه قبل أن يصبح رئيساً، لو أن جارك استولى على حديقة بيتك وضمها إلى أرض بيته وأقام عليها مساكن لبعض أفراد أسرته، هل كنت سترضى بهذا الواقع السكاني الجديد، أم كنت سترفضه وتقاومه بجميع الوسائل المتاحة حتى تسترد أرضك المغتصبة؟!. لا ريب أنك كنت سترفض وتقاوم هذا الاغتصاب، كذلك شعب فلسطين لا يرضى باغتصاب وطنه وسيظل يقاوم حتى يسترد جميع حقوقه المسلوبة.
وفي الختام لعل أصدق وصف لنظرية الحدود الإسرائيلية هو الوصف الوارد في كلمة مندوب الصين في الأمم المتحدة أمام الجمعية العامة بتاريخ 8/12/1971، حيث قال: (إن نظرية إسرائيل عن الحدود الدولية الآمنة هي منطق رجال العصابات وذريعة نموذجية للتوسع).
وأخيراً إن أي اتفاقية سلام لا تقوم على العدل، وتكرس الظلم، لا تعدو أن تكون هدنة مؤقتة لا تنهي الصراع، والقول بغير ذلك خداع وتضليل.