المشهد المصري.. اهتمام بالأمن والسياسة

خروج مصر بسلام من المرحلة الانتقالية التي تمر بها إلى مرحلة تكون فيها قادرة على تأكيد حضورها، محليًا وإقليميًا ودوليًا، هو رهن لنجاحها في محاور ثلاثة: الأمن والسياسة والاقتصاد. في الحديث الماضي، تناولنا محوري السياسة والاقتصاد، بشيء من التفصيل. وسنركز في حديثنا هذا على موضوع الأمن.
ومن غير شك، فإن مطلب الأمن هو حق رئيس ومشروع لكل شعوب الأرض. في هذه المرحلة، تعاني مصر مع الأسف انفلاتًا أمنيًا في المدن الرئيسة. يبدو ذلك في تصاعد جرائم السرقة والسطو في العاصمة والأسكندرية والإسماعيلية وبور سعيد. وتجسد هذا الانفلات أيضًا اشتعال الفتنة الطائفية. لقد أدى ذلك إلى تغير في المزاج الشعبي، فالناس الذين أبدوا امتعاضًا في الماضي من تجاوزات أجهزة الأمن، يطالبون بحضور أكثر قوة لهذه الأجهزة، لضمان أمنهم وسلامتهم. ويتهمون الحكومة الحالية بالتقصير في مجال تقديم مختلف أشكال الدعم للشرطة والمرور المصرييْن، للقيام بدورهما في حماية المجتمع، وتنظيم حركة المرور في المدن والشوارع الرئيسة.
هناك أيضًا شعور عام لدى المصريين، بأن هناك استهدافًا لبلادهم. ويدللون على ذلك بحادثة إمبابة، التي تسببت في احتراب بين الأقباط والمسلمين المتشددين. إن القصة كما يروونها، تقول إن سيدة قبطية متزوجة من شخص قبطي، ولها منه ثلاثة أطفال، هربت مع عشيقها المسلم. وقام أهلها الأقباط باسترجاعها. وجرت اتهامات متبادلة بين المتشددين من الفريقين. فالمتشددون المسلمون يقولون إن أهل السيدة القبطية أرادوا باسترجاعها ثنيها عن اعتناق الإسلام، بينما يرى الأقباط فيما حدث خيانة زوجية وتجاوزًا للأعراف.
يحكي المتشددون المسلمون رواية أخرى غير رواية الأقباط، لكن الأولى هي الأكثر شيوعًا، خاصة أن السيدة المذكورة خرجت على الشاشات التلفزيونية، وأعلنت اعتذارها من زوجها، وأكدت تمسكها بديانتها. إذًا فالقضية برمتها ـــ في الأصل ـــ قضية اجتماعية، ويمكن أن تحدث في أي من البلدان، بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد. ونقلها من بعدها الاجتماعي إلى البعد الطائفي، قد حوَّلها من قضية فردية إلى موضوع جمعي، كاد أن يتسبب في تعميم الفتنة الطائفية بين أبناء الوطن الواحد.
قبل ثلاثة أسابيع من هذا التاريخ، تصاعدت مطالب الأقباط بمحاسبة المتشددين الإسلاميين، واعتصموا أمام مبنى تلفزيون القاهرة (ماسبيرو) مطالبين بتحقيق مطالبهم. وفي المساء بدأت مواجهة بينهم وبين متشددين إسلاميين، حاولوا الاعتداء عليهم في مكان اعتصامهم. حين عودتي مساء من حي الزمالك، شاهدت إقدام بعض المخربين على إحراق عدد من السيارات الخاصة التي تقف على ضفة النهر. وتدخّل الأمن المصري، لإيقاف محاولات التخريب، لكن إطلاق الرصاص استمر ساعات عدة، كان من السهل متابعة صداه من شرفة فندق سمير أميس الذين كنت أقيم فيه.
لم تحظَ تلك الحوادث بتغطية إعلامية مصرية. وأحسب ذلك أمرًا متعمدًا يتواطأ فيه جميع المصريين. فتغطية هذه الحوادث إعلاميًا، من شأنها أن تسيء إلى الموسم السياحي، الذي لا يتوقع كثيرون أن يكون على سابق قوته. والمؤشرات على ذلك كثيرة، ففنادق الخمسة نجوم لا تزال معظم غرفها شاغرة، وتتطلع إلى شهور الصيف لكي تعوض عن خسائرها في الشهور التي أعقبت الثورة.
والحديث عن الموسم السياحي يقودنا إلى موضوع الاقتصاد. فالحكومة الانتقالية التي يقودها المجلس العسكري، تعمل على تشغيل ماكينة الاقتصاد في ظروف بالغة الصعوبة، وتفتقر إلى المصادر والرؤية الاقتصادية المستقبلية. ودورها راهني ومؤقت ريثما تتم الانتخابات البرلمانية ويُقَرُّ الدستور. والمجلس التشريعي المنتخب وحده الذي يملك صياغة المناهج السياسية والاقتصادية. ومع ذلك، تعمل حكومة عصام شرف على تأمين المال من البنك الدولي؛ لتسيير الماكينة الاقتصادية ومقابلة احتياجات الدولة. وفي هذا السياق، ترى حكومة شرف في المساعدة المالية التي قدمتها المملكة، والتي بلغت أربعة مليارات دولار، وأيضًا في تعهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما بتقديم مساعدة مالية، فرصة للمساعدة في عبور الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
تهتم النخب المثقفة بالجانب السياسي، أكثر من غيره من المحاور. فالذين نزلوا ميدان التحرير لم يطرحوا مطالب اقتصادية، وكانت مطالبهم سياسية بامتياز، حيث طغى شعار الحرية على ما عداه من الشعارات؛ لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
شعار الحرية ذاته، كما طُرح في ساحة التحرير يحمل مدلولات كثيرة في التحليل الاجتماعي. إنه يعني أن الذين قادوا الاحتجاجات في الميادين المصرية، لا ينتمون اجتماعيًا إلى المعدمين والطبقات الفقيرة. إذ من الصعب تخيل أفراد يقيمون في العشوائيات والمقابر، أو تحت الكباري، ويفتقرون لأبسط مقومات العيش الكريم، سيركزون على الحرية، ويحيدون شعار الخبز. الأقرب أن نداء هؤلاء هو أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولكن باللحمة أيضًا.
قراءة الخريطة السياسية المصرية لا يمكن ـــ إذًا ـــ فصلها عن التشكيلات الاجتماعية، التي لعبت دورًا مركزيًا فيما جرى في مصر. فالشباب الذين تحركوا في 25 يناير ينتمون إلى مختلف التيارات السياسية، لكن الذين بدأوا النشاط على "الفيس بوك"، وعُرفوا بمجموعة خالد سعيد، هم من التيار الليبرالي، الذي دعم الدكتور البرادعي لحظة وصوله إلى القاهرة، وإعلانه أول مرة منافسته الرئيس السابق حسنى مبارك على كرسي رئاسة الجمهورية. مشروع الدكتور البرادعي ركز على محاربة الفساد، وطالب بالحرية، لكنه تجنب الحديث، أو على الأقل لم يركز على حاجات الناس الأساسية. بمعنى أن مشروعه غَيَّب معالجة المشاكل الاقتصادية. وتلك ثغرة كبيرة، ربما تحقق له تظاهرة سياسية في ميدان التحرير لكنها لن تكسبه بكل تأكيد أصوات الجياع والمغيبين عن مشروعه، وهم كُثُر.
المصريون يتحدثون جميعًا في السياسة، على غير ما كان مألوفًا في تاريخهم. والمناقشات ليست مقصورة على نخبة أو طبقة بذاتها، فالكل يشارك من موقعه في الحوار الدائر الآن حول مستقبل مصر. سألت سائق تاكسي عن مرشحه لرئاسة الجمهورية، أجاب على الفور إنه عمرو موسى. سألته: لماذا ليس مرشحًا آخر؟ أجاب أن البرادعي صديق لأمريكا وإسرائيل، وليس مدعومًا عربيًا، كما أنه ليست له معرفة بالسياسة.. أنا سأنتخب عمرو موسى؛ لأن علاقته جيدة بالسعودية ودول الخليج، وبالأمريكيين والأوربيين. نريد حَلَّ مشاكلنا الاقتصادية، ونحتاج إلى أموال، والبرادعي لا يستطيع أن يحل مشاكلنا الاقتصادية. عمرو موسى وحده من يستطيع أن يجلب لنا القروض والمساعدات.
هذا الوعي العفوي من سائق تاكسي لافتٌ للنظر، فهو ينطلق في تصوراته من وحي حاجته، وأيضًا من وحي انتمائه إلى محيطه العربي. هذا السائق ليس إلا عينة من جموع كبيرة تطرح مسألة معالجة الشأن الاقتصادي كأولوية لنهضة مصر. التقيت مصريين في المطاعم وعلى متن الطائرة التي اتجهت بي إلى القاهرة، والموضوع ذاته يستأثر على تفكيرهم، والأجوبة متقاربة.
موضوع الاقتصاد والانتماء العربي هو الذي يجعل رجل سياسة آخر ينوي الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، هو عضو مجلس الشعب السابق، حمدين صباحي، يحظى بحضور قوي في الأرياف، وفي المدن الصناعية، كحلوان وأبوزعبل، وأيضًا في الأوساط الشعبية في المدن الرئيسة، كون برنامجه يركز على معالجة الأوضاع في العشوائيات والأحياء الفقيرة، ويطرح بقوة قضايا التعليم والعلاج المجاني، والحد الأدنى للأجور، ومشاكل التأمين الصحي. كما يركز أيضًا على انتماء مصر العربي، بما يجعل البعض يعتقد أن الأمور لم تحسم بعد، وأن الأيام القادمة حُبْلى بالمفاجآت.
والخلاصة أن أمامنا لوحات سيريالية زاهية، مُشَبَّعة بالرجاء والأمل، تحوي كل شيء، وتفتقر إلى الإجابة عن أبسط الأشياء، بما في ذلك تقديم إجابات متماسكة حول موضوع الهوية. وربما وجد المتنافسون المؤتلفون في تغييب ذلك تفويتًا لفرصة تاريخية، على أمل بلوغ مطمحهم في السلطة. والحل هو تأجيل كل التفاصيل لحين إنجاز المهمة العاجلة.
هذه الحقائق تفرض واقعًا جديدًا مؤقتًا على حركة القوى السياسية الفاعلة في المجتمع المصري، هي القبول ببرنامج الحد الأدنى، الذي يستطيع جمع كل الأطراف تحت خيمته. لكن هذه بالتأكيد ليست مهمة النهوض بمصر؛ لأن مهمة النهوض تقتضي الغوص في كل التفاصيل، وتحديد برنامج استشرافي عملي وفكري متكامل، يتجه بقوة نحو المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي