حول أسلحة تقنية المعلومات
دائما ما تكون للتقنيات الجديدة تأثيرها الكبير في عمليات التسلُّح، وما يعقبها من أعمال عسكرية في الحروب الكبرى. يحتاج بعضها إلى فترة من الوقت لتظهر نتائجه والبعض الآخر يكون له تأثيره الحاسم في إنهاء الحروب!
وبدأ دخول هذه التقنيات في الأعمال العسكرية مع ابتكار عسكريي الحضارات القديمة المقاتلات الحربية مرورا باختراع الأسلحة النارية والطائرات والرادار وصولاً إلى أسلحة الدمار الشامل، وفي طليعتها الأسلحة الذرية والنووية التي حسمت الحرب العالمية الثانية!
ما ينطبق على التقنيات السابقة في الحروب والمعارك الماضية، ينطبق بحذافيره أيضا على تقنية المعلومات: الحاسبات الرقمية وشبكة المعلومات العالمية (إنترنت) التي غيرت كل مجريات ومجالات النشاط الإنساني بأسره، ومنحت، في الوقت نفسه، عالم الشمال، تفوقا كبيرا وملحوظا في المجالات كافةً، خاصة العسكري منها. ولعل أقرب دليل على ذلك الطلعات الجوية التي تقوم بها طائرات غربية، ذات أغراض حربية، دون طيار إلى أنحاء العالم المختلفة، سواء للتصوير أم التجسس أم جمع المعلومات أم الهجوم على أهداف أرضية!
إن انتشار التقنية الرقمية في أرجاء العالم كافةً، كان له ثمنه الباهظ كذلك؛ فقد تعرَّضت الفعاليات والأنشطة الإنسانية التي تعتمد الحاسبات وشبكات المعلومات العالمية، أسلوب عمل - تعرّضت لمخاطر الهجمات الإلكترونية، التي يمكن أن تلحق أضرارًا فادحة بقطاعات ذات طبيعة حسَّاسة، مثل : قطاعات المال والأعمال والطيران والبنوك والطب والاتصالات، وغيرها.
وهذا التهديد الرقمي الذي يمكن أن تتعرَّض له الحاسبات وشبكة إنترنت من القطاعات المعقدة التي من الصعب معرفة مصدرها وتتبعها، وفي الوقت نفسه يمكن أن يلحق كذلك أضرارًا بالغة الخطورة بالدول، وقد يكون هذا التهديد صادرًا عن أفراد أو مجموعات في الطرف الآخر من العالم، أو أن يكون مصدره دولة، وفي هذه الحالة يكون الهجوم الرقمي أشد ضررًا وخطرًا وأصعب في تتبع مصدره لاشتراك جهات متنوعة فيه من أجهزة استخبارات ومؤسسات علمية وعسكرية!
وهذا يقودنا إلى ضرورة الإجابة عن التساؤل التالي: ماذا سنفعل إزاء الأضرار والمخاطر التي يمكن أن تنجم عن هجوم رقمي على النظم الرقمية، التي تتحكَّم في محطات الطاقة الكهربائية كما حدث سابقا في الولايات المتحدة وتسبب في حدوث ظلام دامس لمدن كثيرة؟! أو هجوم رقمي آخر على نظام المراقبة الجوية في المطارات؟! وهناك طائرات بالجو تنتظر الهبوط أو محطات تكرير البترول أو المصارف المالية، بحيث تعطل النظام الإلكتروني الذي يقوم بتشغيلها. هذه النوعية من الهجمات قد تتسبب في خسائر كبيرة، وفادحة في الأرواح، فضلاً عن تدمير للمنشآت!
على المستويات العالمية، يُلاحظ وجود نقص شديد في سن القوانين، وإصدار الأنظمة والقواعد التي تحكم تلك التصرفات وتحول دون التصرفات السالبة للأفراد والجماعات والدول علي شبكة إنترنت وشبكات الحاسبات الأخرى؛ وتجرم الهجمات الرقمية في دول كثيرة قد لا توجد أي قوانين تحكم تقنية المعلومات على الإطلاق.
وعلى الرغم من ذلك، فإن العين لا يمكن أن تخطئ تحركات الدول الغربية، التي بدأت في طرح فلسفة خطيرة ستؤثر بالسلب في مستقبل تقنية المعلومات في العالم، خاصة في الدول النامية، كما طرحتها مجلة ''الإيكونومست'' في عددها الصادر في التاسع من تموز (يوليو) 2010، ''كما يناط بالدول الكبرى تحمُّل مسؤولية السيطرة على توازنات التسليح في العالم، وتتحكَّم كذلك في ضبط سباق التسلح النووي؛ يجب عليها الآن التدخل فورًا وبشكل مباشر كي تحد من مصادر التهديد الرقمي على شبكات الحاسبات الإلكترونية، ومنها شبكة إنترنت''!
ودعاة هذا التوجُّه في العالم الغربي يزعمون أن هذا السبيل سيؤدي إلى إحباط الكثير من الهجمات الرقمية قبل حدوثها، وسيجنِّب دول العالم المتقدم الأخطار والخسائر الفادحة التي يمكن حدوثها في حال وقع هجوم رقمي كبير يعطل مرافق الدول الكبرى التي تعتمد بشكل كبير علي الإنترنت والحاسبات الإلكترونية، والفضاء الرقمي، بوصفه البعد الخامس من سيطرة الدول الغربية على المجالات العسكرية بعد سيطرة الجيوش على الأرض والأساطيل على البحار والقوة الجوية في السماء وتقنية الفضاء على الأقمار الصناعية والتحكم في المدارات الفضائية!
والبُعد الخامس، خطورته من وجهة النظر الغربية، تكمن في أن حدوث هجوم على شبكات الحاسبات بها قد يؤدي إلى انهيار أوجه الحياة، ومظاهر الحضارة الحديثة، حيث ستدمَّر المصانع التي تديرها النظم الرقمية وستفقد الدول السيطرة على أقمارها الصناعية في مداراتها؛ وستتوقف قطاعات المال والأعمال والاقتصاد، والمصارف، وهذا السيناريو الدراماتيكي لا يمكن تحمله!
لذلك لطالما دقَّ خبراء تقنية المعلومات في العالم الغربي أجراس الخطر والإنذار؛ من خطورة ذلك؛ لأن الهجوم على شبكات الحاسبات ومنها شبكة الإنترنت لم تعد أمرًا صعب المنال أو مستحيل الحدوث؛ فالتقنية اللازمة لذلك متوافرة في كل مكان في العالم ويسهل الحصول عليها، وهم يعلمون ذلك جيدًا؛ لأنها هي نفسها في بعض الأحيان تقوم بعمليات قرصنة رقمية تحت شعار حماية أمنها الوطني؛ كأن تقوم بالتنصُّت والتلصُّص على البريد الإلكتروني، أو تتبع المعلومات التي يتم تبادلها على شبكة الإنترنت أو استخدام البيانات الشخصية التي يقوم مستخدمو شبكة الإنترنت بإدخالها على بعض المواقع لاستخدام الخدمات الإلكترونية بها، مثل: التعامل مع البريد الإلكتروني والشبكات الاجتماعية كالفيسبوك؛ وتويتر، وذلك لإعداد ملف عن كل شخص يتعامل مع هذه الخدمات، وعددهم ليس بقليل فهو يتعدَّى المليار نسمة، والحكومات الغربية في بعض الأحيان توظّف قراصنة شبكة الإنترنت الذين يتم القبض عليهم، وتستخدمهم في إعمال هجوم رقمي لخدمة مصالحها!
الهجمات الرقمية على مستوى كبير ليست مجرد احتمالات قريبة أو بعيدة الحدوث، بل هي حقيقية؛ فقد وقع هجوم إلكتروني كبير على أستونيا في عام2007 وعلى جورجيا عام 2008 قبل الهجوم الروسي مباشرة على دول القوقاز، تتبع هذه الهجمات عندما تقوم بتنفيذها جهات ومؤسسات كبيرة تكون عملية في غاية الصعوبة والتعقيد، وفي الغالب لا تصل إلى نتيجة محققة.
وفي حال قيام الدول الغربية بتبني هذه الفلسفة؛ إنما يعني ذلك وضع قيود على استخدام تقنية المعلومات الحديثة لدول العالم الثاني والثالث، ولن يصبح في مقدور مستخدمي شبكة الإنترنت في هذه الدول التعامل بحرية وكفاية مع شبكة الإنترنت، مثل نظرائهم في عالم الشمال والدول الكبرى؛ فضلاً عن ازدياد الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والدول النامية اتساعًا، مع حجب هذه التقنية عن الدول التي قد ينشأ منها تهديد رقمي على الدول الغربية؛ ما يفقِد شبابنا القدرة على منافسة الشباب الغربي تقريبًا في كل المجالات!