نحن وأمريكا .. الصداقة أم المصالح من يدوم؟
الأوضاع في الشرق الأوسط أعادت الحوار الجاد إلى مفهوم العلاقة والمصالح في العلاقات الدولية، وبرز هذا الموضوع في أحاديث النخب الخاصة بعد المواقف الغربية التي ظهرت تجاه الصراع في المنطقة، فمثلا أمريكا اتخذت مواقف علنية عكست مصالحها السياسية وليس مواقفها السياسية بالذات مع الحلفاء والأصدقاء، كما انخرطت في عمليات خفية (ضد أصدقائها) عززت القناعة بأن أمريكا والدول العظمى بشكل عام، قلبها مع مصالحها وليس مع أصدقائها، ففي السياسة لا توجد صداقات دائمة، بل مصالح متبادلة.
يبدو أن صداقتنا الطويلة مع أمريكا تنسينا حقائق السياسة وطبائع الدول، والمختصون في الدبلوماسية يرون أن الصداقة الطويلة توجد (الحميمية) في العلاقات، وهذه الحالة العاطفية أو الإحساس بالعاطفية لها إيجابياتها ولها سلبياتها، فهي ربما تجعل الدول لا تنظر إلى مشاكلها التي تنمو بهدوء ومنها بالطبع مشكلة (التصورات)، فالصورة الذهنية ليست بالضرورة أن تظل على حالها مع تغير الأجيال، وتنتج المشاكل عندما يعتقد كل طرف أنه واضح للطرف الآخر وبالتالي ليس لديه ما يخفيه.
هنا يحدث التضارب في المدركات عندما يفشل كل طرف في تلقي رسائل الطرف الآخر بشكل سليم يسمح بفك الرموز والتحليل واستجلاء الصورة كاملة ..
والفشل في تلقي الرسائل وفك رموزها يؤدي إلى التبدل في الاتجاهات ثم السلوك تجاه الآخر، وربما هذا ما يفسر صدمة أصدقاء أمريكا من حالة التبدل في المواقف التي طرأت على الموقف الأمريكي تجاه الأحداث في المنطقة وهو تبدل (أحدث صدمة) لدى الحلفاء والأصدقاء .. وجعلهم يطرحون السؤال الأمريكي الشهير: أمريكا معنا .. أم ضدنا!
إذا نحن نفهم السياسة على أنها مهنة تمارس على أنها مهنة البحث في الممكن والمستحيل، وأن الواقعية ضرورية في الأداء السياسي وقد لا تلتقي النظرية الأخلاقية مع الممارسة السياسية .. من هذا المنطلق نفهم أن أمريكا تمارس حقها الطبيعي في حماية مصالحها القومية، وهنا لها الحق في استخدام الوسائل التي تحقق لها غاياتها، سواء تم ذلك عبر التحالف أو التآمر، فالسياسي مكلف بتحقيق أهدافه القومية.. هو ليس نبيا أو مصلحا أو فيلسوفا ينشد الخير والسلام فقط!
طبعا هذا يتجلى الآن مع تحول مفهوم الدولة وتغير طبيعة رجال السياسة، فدور الدولة العظمى بالذات يطور شكله الجديد في القرن الواحد والعشرين، حيث بدأ يبرز الآن دور الدولة الراعية للشأن الدولي، الذي يعطيها الحق في تجاوز الحدود والتدخل في السيادة الوطنية للدول، ونرى تطبيقات هذا الدور في السلوك السياسي الأمريكي تجاه الدول في المنطقة، فقد شاهدنا كيف أن أمريكا مثلا تطالب رؤساء الدول بالتنحي.
أيضا هناك تبدل في طبيعة رجال السياسة/الدولة، ففي السنوات الأخيرة ظهر رجل الدولة الذي هو أقرب إلى موظف شركة كبرى، فقد أصبح مقبولا من رؤساء الدول الحديث عن مصالح شركاتهم وتسويق الفرص الاستثمارية، وكان الرئيس الفرنسي الراحل ميتران في معرض الدفاع السنوي الشهير في باريس يدخل من بوابة خاصة بعيدة عن المعرض حتى لا يمر على أجنحة الشركات، كان هناك تقليد حتى لو كان ظاهريا شكليا بالفصل بين السياسة والتجارة.
وما أصاب رجال السياسة، أصاب رجال المال، فالأزمة العالمية الأخيرة وافتضاح دور البنوك فيها أعلنت عن نهاية حقبة رجل البنوك (الكلاسيكي) الذي لديه الحد الأدنى من تقاليد المصرفية العريقة التي تبني السمعة وتحرص على سلامتها.
كذلك دخول منظمات المجتمع المدني كإحدى الأدوات المحركة للعلاقات الدولية ساهم في تبديل طبيعة العلاقات بين الدول، حيث قلل مساحة الحركة والمناورة للسياسيين.
كذلك أضافت أدوات التواصل الاجتماعي الجديدة متغيرا جديدا يصعب استدامة العلاقة بين الدول بناء على (حميمية المشاعر) والركون إلى الصداقات، كل هذه التطورات ربما توجد التفسير الموضوعي لأن نبدأ مرحلة جديدة وحاسمة لفهم طبيعة الأفعال وردود الأفعال في علاقاتنا سواء مع أصدقائنا أو أعدائنا، فإذا شاهدنا الدول العظمى (تقلب ظهر المجن) لأصدقائها، فعلينا أن ندرك أننا إزاء عالم جديد تتبدل فيه العلاقة بشكل سريع ومتضارب مع المدركات والتصورات الطبيعية التقليدية.
وهذا ليس في السياسة فقط، بل ربما في كل شيء، فالإنسان دخل في حقبة من الحياة المعقدة، فقد (عقدنا) أمور حياتنا حتى وصلنا إلى مرحلة التصادم مع الوعي لفهم أبسط الأمور.
ولمن يريد الاستزادة من الفهم لدور الدولة وطبيعة العلاقات الدولية في القرن الواحد والعشرين، حتى نطور ذهنية تحليلية تجعلنا لا ننصدم بل نتفهم ونطور آلياتنا للتعامل مع العالم، ربما من المفيد الاطلاع على الأدبيات المطروحة ومنها كتاب (الإمبراطورية) للمؤلفين (أنطونيو نيغري ومايكل هاردت).