حتى لا يكون هؤلاء شوكة في حلوقنا!
التعديل الأخير لنظام المطبوعات والنشر، خطوة ضرورية لإعادة ترتيب الخطاب الإعلامي ليكون في الإطار الذي يخدم المصلحة العليا، ويخدم استقرار المجتمع، ويوجد أرضية جديدة تساعد على نمو ذهنية إعلامية تتخذ (النقد الموضوعي) الآلية الطبيعية لتداول القضايا والشؤون المحلية والدولية.. وهنا النظام لم يمنع أو يحجب الحق الطبيعي للإنسان وهو التعبير، وإنما وضعه في إطار (الموضوعية) حتى لا تكون القضايا الأساسية والرموز الوطنية سلعة إعلامية تباع في سوق المنتجات الاستهلاكية السريعة.
والنقد الموضوعي هو جوهر وأساس العمل الإعلامي، والموضوعية مهمة صعبة وشاقة وتتطلب من الوسيلة الإعلامية الاستعداد المادي والبشري، وأيضا تحتاج إلى القدرة المالية التي تحمي استقلال الوسيلة والكفاءة البشرية المؤهلة التي (تتعب) على إثراء المادة الإعلامية بالحقائق والمصادر الصحيحة، مع تقديم جميع وجهات النظر وعدم الانتصار لأطراف أو مصالح أو قوى محددة في المجتمع، فالمفروض أن تقف على مسافة واحدة. فالموضوعية تعني (الأخلاقية) وهذا هو المبدأ العظيم الذي يقوم عليه أداء وسائل الإعلام ويحفظ لها احترامها ويقدمها في إطار (المصلح) لا (المخرب)، ومهمة الإصلاح أيضا صعبة وشاقة لأنها تتطلب أولا إصلاح الذات، فقبل أن تتصدى لإصلاح الآخرين يجب أن تكون الوسيلة الإعلامية محصنة بالأنظمة الداخلية والمرشدات الأخلاقية وآليات العمل وسياساته الواضحة والمنسجمة مع مصالحها ومصالح الدولة والمجتمع.
وبناء القدرة الذاتية للوسيلة الإعلامية هو الذي يجعلها أداة للنقد الموضوعي الذي يُفيد الدولة والمجتمع، فعندما تكون الآراء المعروضة (مخدومة) بالحقائق والأرقام وتنطلق من خبرة وتجربة ودراية علمية، فإن النقد هنا يصبح مصلحا ومعينا ويقدم (استشارة مجانية) يستفيد منها القائمون على الشأن العام أو الخاص، وعبر هذا المسار ترفع وسائل الإعلام سقف الحرية بنفسها، فإذا ارتقى أدب الخطاب واحتوى الحقائق واتضح المقصد، فإن الرسالة الإعلامية تصل وتكون مؤثرة ولها القبول والاحترام حتى لو كانت متصادمة مع مصالح القوى السياسية أو الاجتماعية.
لذا لن تكون التعديلات الجديدة في نظام المطبوعات عائقا أمام تطور الإعلام واستقلاليته والتأثير في حيويته وأهمية دوره في الحراك الاجتماعي وفي ممارسة الرقابة الموضوعية الضرورية على الحكومة وتفاعلات المجتمع، فالتعديلات تجعل حرية الكلمة منضبطة ومسؤولة، فنحن في حقبة تستدعي تفعيل مؤسسات الإعلام لتكون لها قيمتها المضافة التي تساهم في نمو المجتمع وتطوره، خصوصا مع تعدد وسائط النشر والتعبير التي أوجدتها ظاهرة الاتصال الجديدة.
التعديلات تضع تحديات جديدة للصناعة الإعلامية ولا تضع عوائق، التحديات هي في كيفية تطور الجوانب المهنية الاحترافية في الأداء الإعلامي والخروج من حقبة إعلام (الهواة). إنها تستدعي أن تنتقل وسائل الإعلام للاستثمار المكثف في الموارد البشرية، والمؤسسات الإعلامية السعودية سجلها ضعيف جدا في هذا المجال، وأغلب الموارد البشرية فيها هم ثمار التأهيل الحكومي.
إننا في حقبة تتطلب مساهمة الإعلام في إيجاد المشاعر والتصورات المرجعية المشتركة للناس التي توحدهم ولا تفرقهم، خصوصا أن (سيناريو تفكيك الشرق الأوسط) لم يعد حديثا يفترى، فهو مشروع تدعمه شواهد الواقع الذي نراه.. لذا نحن إزاء حاجة جديدة للإعلام السعودي تقوم على تعزيز المرجعيات الدينية والثقافية والسياسية المشتركة، وإبعاد المجتمع عن أي خطاب إعلامي يؤدي إلى التصعيد والتوتير الاجتماعي وإضعاف الثقافة والبنية السياسية المحلية.
الإعلام يجب أن يستشعر الأزمات المستقبلية التي تنتج عن توتر المجتمع ويعمل على الحيلولة دون ذلك عبر المساهمة في حل القضايا والمشاكل (لا تأزيمها) فمع الأسف، العالم يحل مشاكله ونحن (نؤزم) مشاكلنا.. نحولها إلى أزمات حتى تبدو للناس عصية عن الحل.
الإعلام من مهماته الأساسية زيادة وتعميق العلاقة بين الدولة والمجتمع عبر تفهم الظروف المحلية والدولية، وهذا لا يعني خضوع أحدهما للآخر، بل يعني التناول الواعي الذي يعرف متى يتحرك ومتى يقف لتحقيق المصلحة العامة.
ربما الظروف الجديدة تستدعي إعادة تشكيل (المجلس الأعلى للإعلام) ودعمه بإنشاء معهد وطني متقدم للأبحاث والدراسات الإعلامية واستقصاء الرأي العام، فنحن نكاد نفقد سياسة إعلامية ذكية مرجعية تعمل على استثمار ما ننفقه على الإعلام. إننا ننفق بسخاء على الإعلام، حكومة وقطاعا خاصا، ومع ذلك نحن أكثر من يهاجم في ثوابته وأكثر من يشوه واقعه وأكثر من تهاجم رموزه ومؤسساته حتى المسلسلات التلفزيونية التي نمولها أصبحت تقدم المجتمع السعودي للمشاهد العربي في صورة كاريكاتورية مهزوزة، حيث خلفيات المشاهد شوارع مدمرة وبيوت قديمة ورجال يقمعون النساء، والمتدينون يقدمون بصورة أقرب إلى السذاجة والبلاهة والتخلف.. إنها صورة نمطية سلبية يصنعها الإعلام لنا وبـ (فلوسنا) ونحن من يقوي ويدعم خطاب هذه القنوات الفضائية بإعلانات شركاتنا حتى تكون برامجها شوكة في حلوقنا!!