فراق الأحبة

نشأة وفناء، قدوم ورحيل، لقاء وفراق، ضحك وبكاء، أمل ويأس، صبر وجزع، حزن وسرور، غنى وفقر، شغل وفراغ، صحة ومرض، حياة وموت .. هذا حال الدنيا. خلقها الله - عز وجل - واستعمر الإنسان فيها ليعبده ويعمرها إلى آخر لحظة من حياته، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)، وورد في الأثر: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً" ... عن أنسٍ ـــ رضيَ الله عنه ـــ عن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ قال: "إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَفي ِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا؛ فَلْيَغْرِسْها"‏. وهذا الأمل في الحياة إلى آخر رمق جعل الإنسان يبني ويعمل ويزرع وكأنه مخلد في الدنيا، رغم أنها لم تكن دار خلود لأحد حتى خير البشر، النبي محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ قال الله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) "سورة الزمر30"، وقال تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) "سورة الأنبياء من الآية 34"، والآيات كثيرة التي تؤكد دور الإنسان في الدنيا وأنها مزرعة الآخرة ووسيلة وليست غاية في حد ذاتها وإنما هي دار عمل لا حساب والآخرة دار حساب لا عمل، ولنتذكر قول الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له". "صححه الألباني".

يقول الشاعر:
كن عن همومك معرضاً *** وكِلِ الأمور إلى القضــــا
وأنعم بطول سلامــــــة *** تُسليك عمّا قد مضـى
فلربما اتسع المضيــــق *** وربما ضاق الفضــــا
ولَرُبَّ أمرٍ مسخــــــطٍ *** لك في عواقبه رضـــى
الله يفعل ما يشــــــاءُ *** فلا تكن متعرضـــــا

فالإنسان لا بد أن يوفق بين عمله لدنياه وادخاره لأخراه حتى لا يندم في ساعة لا ينفع فيها الندم. قال تعالى: (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) "القصص من الآية 77".
ورغم هذه الثوابت التي لا يختلف عليها الناس إلا أن الإنسان ـــ إلا من رحم ربي ـــ كثيراً ما ينشغل بالدنيا عن الآخرة ويكرس كل طاقته وجهده من أجل العمل فيها والبناء له ولأحفاده وزراعة الأرض، وهذا بلا شك، شيء جميل ولكن لا نريد أن يشغله ذلك عن أخراه وهي الأهم لأنها دار المقام وهي دار الجنة أو النار - أعاذنا الله من النار - وتأتي اللحظة الفارقة عندما يفارق أحد الأحبة الدنيا ويتوفاه الله وتصيبه مصيبة الموت، قال الله عنها في كتابه العزيز (... فأصابتكم مصيبة الموت) "المائدة من الآية 106"، في هذه اللحظة يفيق الإنسان من غفلته، وكأن صعقاً كهربائيا أصابه فيتذكر الحقيقة التي يغفل عنها بعض الناس وهي الموت.. الموت الذي يفرق بين الأحبة بين الابن ووالده والوالدة أو الأخ أو الأخت أو الزوجة وزوجها أو ابنها وابنتها ... إلخ، يستيقظ الحي على حقيقة مفادها أنه في الدنيا حي يرزق بينما الآخر انتقل إلى أول منازل الآخرة وهو القبر، ترك الدنيا بما فيها ومن فيها، انقطع عمله إلا من ثلاث، كما قال الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"، فكان لزاما على كل منا أن يكون حريصاً على أن يعمل ما ينفعه في دنياه وأخراه حتى يلقى ربه وهو عنه راضٍ، وعليه أن يجعل الدنيا جسرا إلى الآخرة.
يقول الشاعر:
الموت كأس و كل الناس شاربه *** و القبر باب وكل الناس داخله
ويقول الثاني:
الموت بابٌ وكل الناس داخله *** فليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنات خلدٍ إن عملت بما *** يرضي الإله وإن خالفت فالنـار
يقول الثالث:
ولو أنا إذا متنا تركنا *** لكان الموت راحة كل حيٍ
ولكنا إذا متنا بعثنا *** ونسأل حينها عن كل شيءٍ
والدنيا لم تغر الرسل والأنبياء ولم تشغلهم عن الآخرة, بل عملوا لدار القرار طمعا في جنة ربهم، وحسبنا أن رسولنا الكريم ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ عندما خُيِّر في مرضه الأخير بين البقاء في الدنيا والرفيق الأعلى، اختار ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ الرفيق الأعلى، وكان مبدؤه في الدنيا: "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين". ورفض أن يكون له مثل جبل أحد ذهبا، وفضل أن يشبع يوما فيشكر ويجوع يوما فيصبر.
وإذا فارق حبيب أحبته عليه أن يسترجع كما علمنا ربنا في كتابه الكريم: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) "البقرة 156"، عن أم سلمة ـــ رضي الله عنها ـــ قالت: سمعت رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ يقول:"ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون؛ اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجره الله تعالى وأخلف له خيرا منها" ويكون شعاره قول النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ "إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى... فلتصبر ولتحتسب".
والله سبحانه وتعالى كتب الفناء على كل حي، وهو الحي الذي لا يموت، وكل إنسان لا بد أن يعمل لهذا اليوم ويدخر من دنياه لأخراه، حتى يرى نتيجة عمله الصالح في قبره ويوم الحساب.
وأخيرا.. أدعو الله لكل ميت بالرحمة والمغفرة وأن يدخله الله فسيح جناته وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وأن يفسح الله في قبره وأن يجعله روضة من رياض الجنة وأن يجازيه بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفوا وغفرانا... آمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي