لمن يُجمع السلاح؟!
■ في قصة بناء سور الصين العظيم ثمة قصص وعبر، فهذا الإنجاز البشري جرى العمل عليه لسنوات طويلة، وفي أحد مسارات إنجازه اقترح وزراء الإمبراطور استكمال البناء وحددوا لذلك النفقات التي يُفترض أن تجمع من الضرائب على المزارعين والتجار، ومضى المشروع وكان طبعا المستشارون والوزراء هم أبرز المنتفعين من إنجاز المشروع.. واستمر العمل لسنوات وأنجز البناء وكان الثمن على الناس عاليا، إذ ارتفعت النفقات ومعها ازدادت الضرائب على الناس حتى خنقتهم.. وكان الغزاة المغول قادمين.. وكانت المفارقة، فإذا الناس الذين أرهقتهم تكاليف الحياة وبطش جامعي الضرائب قدروا أن الخلاص هو في فتح أبواب السور ليأتي الغزاة!
أوضاعنا في العالم العربي فيها بعض ملامح التاريخ البعيد..
فمعاناة الإنسان باقية، وأطماع البشر تتكرر، والسلطة التي تحكم الناس أيضا تنسى أنها عابرة ولا توجد قوة مطلقة، فالأقوياء وفي عز قوتهم ينهارون عندما يصلون إلى مرحلة (الغطرسة) أي المرحلة الفرعونية، والأنظمة التي انهارت والأخرى التي تنتظر سرى عليهم ما جرى للأمم السابقة، خنقوا الناس ولم يتركوا لهم متنفسا في حياتهم.. وأحاطوا أنفسهم بالأسوار خلف الأسوار، كدسوا السلاح وظلوا يجمعونه لسنين طويلة.. وظل السؤال معلقا: لمن يجمع السلاح؟
قالوا للناس: السلاح لمحاربة العدو! وظلّت الناس مثقلة بالضرائب تدفع والحكومات تشتري وتكدس، والآن يدار السلاح عليهم، المدافع والدبابات والقصف بالطائرات تستخدم ضد الناس العزل، ضد الصدور العارية للأطفال والشباب!
في ليبيا وسورية..
السلاح الذي دُفع ثمنه من لقمة العيش ومن دواء المريض يستخدم لقتل الناس ثم ينتهي إلى خراب!!
تحاصرنا المشاهد..
الدبابات المدمرة كم دُفع لها.. ألا يكفي ثمنها الكبير لشراء عشرات الجرارات الزراعية أو آليات حفر الآبار أو لإجراء الدراسات والبحوث لتطوير المحاصيل الزراعية ومكافحة الآفات!
ألا يكفي ثمن الدبابة لبناء وحدات سكنية تؤوي الفقراء ممن يسكنون الصفيح!
ألا يكفي ثمن الطائرة المقاتلة لإنشاء كلية طب!
ألا يكفي ثمن مدفع لبناء مستوصف أو مدرسة في قرية!
كم هو مؤلم مشهد جثث القتلى من بسطاء الناس الذين ذهبوا قتلى بالسلاح الذي دفعوا ثمنه!
أي (أسوار للأمن) بنتها هذه الأنظمة وهي غير قادرة الآن على أن تحمي نفسها، هل نفعتها من الغضب الجامح المتدفق من الحناجر؟
كدست الأسلحة ولم تحارب بها الأعداء، الآن تحارب بها نفسها، أي أن الرصاصات التي تطلقها على الناس إنما تطلقها على نفسها.. كم ستقتل من الناس؟
الحكومات التي جمعت السلاح، وهي الآن تقتل به شعبها، حجبت عنها عقيدة الأمن المسيطرة على تفكيرها وتصوراتها إدراك حقائق الطبيعة البشرية وحراك الجماعات وانتفاضة المجتمعات، فالدماء إذا سالت لا تزال آثارها بالمزيد من الدماء، فالضحية تولد من رحم الضحية، والجماعات تولِّد الضحايا الجدد من ذاتها إذا كانت الحلول قمعية عنيفة، والدماء إذا استمرت تتدفق فإنها كماء المطر الذي يبعث الحياة في البذور المطمورة تحت التربة، وبذور العنف مثل بذور الأشجار والأزهار، تسافر بها الرياح وتنقلها إلى أراض جديدة، إنها دورة الحياة!
الذين جمعوا السلاح ليحاربوا الأعداء، لم يحاربوا به أعداءهم، ولا حتى شعبهم، إنهم يحاربون به أنفسهم.. بقتلهم الناس!