العقود المصرفية الحالية لا تحقق مقاصد الشريعة وأهداف الاقتصاد الإسلامي

العقود المصرفية الحالية لا تحقق مقاصد الشريعة وأهداف الاقتصاد الإسلامي
العقود المصرفية الحالية لا تحقق مقاصد الشريعة وأهداف الاقتصاد الإسلامي
العقود المصرفية الحالية لا تحقق مقاصد الشريعة وأهداف الاقتصاد الإسلامي
العقود المصرفية الحالية لا تحقق مقاصد الشريعة وأهداف الاقتصاد الإسلامي
العقود المصرفية الحالية لا تحقق مقاصد الشريعة وأهداف الاقتصاد الإسلامي
العقود المصرفية الحالية لا تحقق مقاصد الشريعة وأهداف الاقتصاد الإسلامي

كشف الخبير المصرفي الإسلامي الدكتور حامد ميرة أن 09 في المئة من عقود التمويل المطبقة في المصارف الإسلامية حالياً هي عقود تورق ومرابحة، وهذا يمثل أهم الإشكالات والتحديات التي تواجه المصرفية الإسلامية، ويجب أن نقف ونتأمل فيه طويلاً، كما أن بعض العقود قد رأى بعض مشايخنا وعلمائنا إجازتها في بادئ الأمر عندما كانت المصرفية الإسلامية في بداية طريقها لتشجيعها، أما الآن فقد أصبح الوقت يحتم علينا الوقوف لتصحيح المسار والعودة بالمصرفية الإسلامية إلى المقاصد والغايات التي تكلم عنها منظروها الأوائل.

وأكد ميرة أن المصرفية الإسلامية في بداياتها كانت متسامحة ومتساهلة لكنها اليوم وبعد ثلاثين عاما؛ يجب أن تعود إلى المسار الأول، وما كنا نتحدث عنه من المثل والمبادئ العليا للمصرفية الإسلامية، كذلك يجب علينا أن نوسع دائرة الأفق وألا نحصر أنفسنا في عقود التمويل في المصارف أو ما يسمى بالمصارف التجارية، يجب أن نكون أوسع أفقا؛ً فالاقتصاد الإسلامي أوسع من مجرد عقود تمويل في المصارف ومن استثمار في سوق الأسهم .. فإلى تفاصيل الحوار الذي الزميل أجراه محمد رسلان:

في دراسة لكم أكدتم أن التمويل الإسلامي القائم على العقود الشرعية فيه تحقيق مقاصد الشريعة وغاياتها؛ مما يترتب عليه دعم الصغار والكبار في آن واحد، ويكون أثر ذلك إيجابيا على الاقتصاد برمَّته. نود منكم توضيح ذلك؟
ـــ تسهم عقود التمويل الشرعية بشكل كبير في تحقيق التوزيع العادل للثروة، وتحقيق التوازن الذي يسهم في منع تكدس المال في أيدي فئة قليلةٍ من المرابين وأصحاب رؤوس الأموال، وتحقق المقصد الشرعي في توزيع الثروة بين أفراد المجتمع الذي يدل عليه قول الله ـــ سبحانه وتعالى: «كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم». وإذا تأملت التمويل بالمشاركة ـــ على سبيل المثال ـــ حيث يتم فيه التكامل بين صاحب المهنة أو صاحب الصنعة أو أصحاب الملكات والقدرات وبين أصحاب رؤوس الأموال؛ فيكون توزيع الأرباح بينهم، وبذلك يتم توزيع الثروة بين الناس ويتم تحقيق هذا المقصد الشرعي.
وفي المقابل فإنك ترى التمويل الربوي ـــ في الغالب ـــ يتجه نحو الجهات المليئة التي تستطيع أن تقدم الضمانات المالية الكافية، أما المستثمر الصغير العاجز عن تقديم هذه الضمانات فلن يحصل على التمويل المطلوب ولو كان كفؤاً؛ ومآل ذلك ونتيجته أن يصبح المال دُولةً بين الأغنياء، ويترتب على ذلك من الآثار الاقتصادية والاجتماعية المدمِّرة الكثير، مما يضيق المقام عن بيانه. إلا أن السؤال الأهم الذي يجب علينا طرحه في هذا المقام هو: هل المصرفية الإسلامية في الطريق الصحيح، وهل العقود السائدة الآن في المصرفية الإسلامية بالفعل تحقق مقاصد الشريعة وأهداف الاقتصاد الإسلامي وغاياته؟ فمثلا إذا نظرنا في عقدٍ كالتورق المصرفي المنظَّم وأمثاله؛ هل هو بالفعل يسهم في تحقيق المقاصد الشرعية؟ في الحقيقة هي نقطة تأمل وإنني لا أرى أن مثل هذه العقود الموجودة بكثرة في المصرفية الإسلامية المعاصرة تحقق مبادئ الاقتصاد الإسلامي ومُثُله بالشكل الأمثل.
#2#
هناك جدل كبير حول موضوع التورق المصرفي كأحد المنتجات الإسلامية للمصارف، ما رؤيتكم لهذه القضية؟
ـــ موضوع التورق المصرفي أو التورق المنظَّم من الموضوعات التي أصبحت محل جدل ونقاش طويل، ربما جزء من النقاش يكمن في عدم تحرير محل الخلاف، بمعنى أن كثيراً من المتحدثين سواء على نطاق المحرّمين أو على نطاق الـمبيحين لا يحررون الصورة من صور التورق التي يحكم عليها بالحل أو الحرمة، فهناك بعض الناس ينادي بتحريم التورق وفي الوقت نفسه تجده في بعض المصارف أو في بعض الجهات يجيز بعض أنواع التورق؛ وعليه فإن من الأهمية بمكان تحرير ما التورق المحرم وما التورق المباح.
ولذلك فإنك تجد خلطاً، حيث يتم إطلاق مصطلح التورق بعمومه ويدخل في هذا المصطلح ناس يحرمون بعض الصور وناس يبيحون بعض الصور، وإنني أرى أن بعض صور التورق المصرفي ينبغي ألا يكون هناك خلاف في تحريمها، فالتورق المصرفي الذي يكون على سلع غير موجودة في الواقع أو التورق على سلع صورية، التورق الذي يكون في نهاية المطاف مجرد أوراق ـــ وهذا في الحقيقة موجود ـــ يجب أن نضع أيدينا على الجرح ونعترف بأن هناك في بعض المصارف يوجد هذا النوع من التورق، هذا التورق الذي يجب ألا يُختلف في منعه.
صورة أخرى: إذا كان التورق المصرفي على سلع حقيقية وموجودة لكنها غير معيَّنة (أي موصوفة في الذمة)، كثير من الهيئات يرى تحريم هذه الصورة لأنها في المآل تؤول إلى الصورية، فلذلك يجب أن نمنع هذا النوع من التورق.
أما التورق الذي يتم على سلع حقيقية معيَّنة مع قبض العميل (المتورِّق) لها ـــ حقيقة أو حكماً ـــ فإن هذا النوع من التورق أرى أن الخلاف فيه أمره أوسع.
لذلك أرى عندما نتحدث عن التورق أن نحدد عن أي نوع من التورق نريد، كما أن بعض أنواع التورق يجب ألا تكون محل خلاف، وأن نسعى جميعاً إلى منعها وإزالتها من المصرفية الإسلامية.

تحدثتم عن عديد من المنتجات التمويلية المستجدة في المصارف الإسلامية مثل المرابحة بربح متغير، وعن تمويل المتاجرة في الأسهم (المارجن) من خلال عقد المرابحة، وشراء المديونيات في المصارف.. ما تقييمكم لكل هذه المنتجات الإسلامية؟
ـــ في الواقع إذا بدأنا بموضوع المرابحة بربح متغير، فإني أرى أن من أبرز التحديات التي تواجه المصرفية الإسلامية المعاصرة، آلية تحديد الثمن أو الربح في عقود التمويل طويلة الأجل؛ حيث إنه في ظل التقلبات الكبيرة في مؤشرات الأرباح والأسعار، وتذبذبات معدلات التضخم، فقد أصبحَ من شِبه المتعذِّر تقديرُ ربحِ التَّمويل طويلِ الأجل بعائدٍ ثابت ـــ وبالأخص في عقود التمويل الكبيرة ـــ حيث إنَّ المصرف لا يرضى بتحديد الرِّبح بمقدارٍ ثابت يخشى أن يرتفع في المستقبل؛ فيكون خاسراً بذلك، وفي المقابل فإنَّ المتمَوِّل لا يرضى بدفع ربحٍ أكثر من السُّوق.
هذا وقد كانت المصارف الإسلامية تحتاط في تمويلاتها طويلة الأجل فتضع الحد الأعلى الذي تتوقع أن تصل إليه معدلات الأرباح ـــ أو ما يقاربه ـــ أثناء مدة التمويل بأكملها، ولكنها بذلك خسرت عملاءها لكون مقدار الربح الذي تطلبه أعلى بكثير من منافسيها التقليديين، بل إن الواقع يشهد بأنه في حالات ليست باليسيرة أبرَم المتموِّلون عقودَ تمويلٍ طويلة الأجل مع مصارف إسلامية حال ارتفاع معدلات ومؤشرات الأرباح، فلما انخفضت هذه المؤشرات رجع كثيرٌ منهم على المصرف يطلب فسخ العقد، أو تخفيض العائد، بل إن بعض هذه الحالات كانت منشأ نزاعٍ وخصومة؛ مما أفقد المصارف الإسلامية شريحة مهمة من العملاء، وبالأخص في عقود التمويل الكبرى.
وفي ظلِّ هذه الحاجة فقد طرحت بعض المصارف الإسلامية بدائل وحلولا عِدَّة، أهمها: (المرابحة بربحٍ متغيِّر).
وكما هو معلوم فإن الأصل في عقد المرابحة أن يكون رأس المال والرِّبح محدَّداً بمبلغٍ ثابت مقطوعٍ في مجلس العقد، كأن يقول البائع: بعتك هذه السِّلعة بألفٍ وخمسين؛ ألفٌ منها رأس المال وخمسون ربح. إلا أن (المرابحة بربحٍ متغير). محل النقاش هو: حكم كونِ رأسِ المال محدَّداً في مجلس العقد، وأما مقدار الرِّبح فيتَّفِق العاقدان في مجلس العقد على ربطِه بمؤشِّرٍ منضبطٍ عامّ العلمُ به في آجالٍ مستقبلية محدَّدَة، وفق آليَّة محدَّدة.
هذا ويتم تطبيق المرابحة بربحٍ متغيِّر في الواقع العملي في المصارف عبر آلياتٍ عِدَّة، المهم والمشترَك فيها جميعاً أن الثمن فيها يتكوَّن من ثلاثة أجزاء: (حصة من أصل الدين، ومقدار المؤشر، والهامش الإضافي)، اثنان منها ثابتان محددان في مجلس العقد (وهما: الحصة من أصل الدين، والهامش الإضافي)، ويبقى جزء واحد منها متغيِّر (هو مقدار المؤشر).
هذا وإن حكم المرابحة بربحٍ متغير من المسائل الشائكة التي اختلف المعاصرون في حكمها ـــ مع كون أغلبية المعاصرين على تحريمها ـــ إلا إنه بعد بحث المسألة تفصيلاً فقد ظهر غلبة جانب الجواز بشروط وضوابط، أهمها: استجماع شروط صحة المرابحة (كالعلم بالمبيع، وعدم الإلزام بالوعد..)، كذلك فإن من الأهمية بمكان أن يشتمل العقد على بيانِ آليَّةِ تحديدِ أقساطِ الثَّمنِ وآجالِ حُلُولِها بشكلٍ واضحٍ ينفي عنها الجهالة، كما يجب أن يحدِّد العاقدان في مجلس العقد معياراً أو مؤشراً منضبطاً لا يستقل العاقِدان بعلمه، ولا يتطرَّق النزاع بينهما في تحديده يكون هو المرجع في تحديد أقساط الثمن المؤجَّلة. إضافة إلى اشتراط اتفاق العاقدين عند التعاقد على سقف أعلى وسقفٍ أدنى لمقدار التذبذب المقبول في مقدار أقساط الثمن الآجل. وأخيراً يُشترَط لصحة المرابحة بربحٍ متغير أنه إذا تحدَّد مقدار أي قسطٍ من أقساط الثمن الآجل، ثم حلَّ أجلُه فلا يجوزُ بحالٍ أن تُفرَض على المدين زيادةٌ في الدَّين نظير التأجيل أو التأخُّر في السداد، سواءٌ أكانت تلك الزيادة مبلغاً ثابتاً أم متغيِّراً، وسواءٌ أكان منصوصاً عليها في العقدِ أم اتَّفَقَ الطَّرَفان عليها لاحقاً.
هذا وقد كان من أبرز ما غلَّب جانب الجواز ـــ بضوابط ـــ من وجهة نظري في حكم (المرابحة بربحٍ متغير) أمور عدة منها: أنه عقدٌ استجمعَ شروطَ صِحَّتِه، وانتفت عنه الموانِعُ، وسَلِم من أسبابِ فساد العُقودِ من ربا، وغررٍ ومقامرةٍ، وظلمٍ وأكلٍ لأموالِ الناس بالباطل، كما أن ما أورد عليه من جهالةِ الثَّمن عند التعاقد، فهي جهالةٌ غير مؤثرة (كما بينت ذلك تفصيلاً في الدراسة)، بل ربما قيل: إنه في ظل التقلب الكبير في الأسعار، والتذبذب الشديد في المؤشرات الماليَّة والاقتصادية، فإن المرابحة ذات الأجل الطويل بربحٍ متغيِّرٍ أبعد عن الشِّقاق والنِّزاع، وأحرى في تحقيق الرِّضا بين العاقدين. كما أن في المرابحة بربح متغير حلاًّ لواحدة من أهم مشكلات المصرفية الإسلامية المعاصرة، ومعالجةً لأحد أهم عوائقها، وذلك فيما يتعلق بحلِّ مشكلة تحديد مقدار هامش الربح في عقود التمويل طويلة الأجل، وهو ما سيكون له أثره الإيجابي في استقطابِ شريحةٍ من العُمَلاء الذين كانوا يُحجِمُون عن التَّمويلِ الإسلاميِّ لعدمِ توافُّر بديلٍ للتَّمويلِ طويلِ الأجل ذي العائدِ المتغيِّر. إضافة إلى ذلك، فإن القول بجواز المرابحة بربحٍ متغير يُعَدُّ معالجة عمليةً وإبطالاً لجملةٍ من البدائل التي طُرِحت كبديلٍ عن التمويل طويل الأجل بعائد متغيِّر، مع اشتمالها على محظورات كقلب الدَّين (مثل منتج: المرابحة المدوَّرة أو ما يسمى بـالـ Revolving Murabaha)، فضلاً عما تشتمل عليه من تكلف وتعسف للوصول إلى العائد المتغيِّر. وذلك لأنه لو كانت هذه الغاية غير مقبولة شرعاً، فأي حيلة يراد منها الوصول إلى هذه الغاية فهي لا تزيد الأمر إلا قبحاً وسوءاً؛ وإن كانت تلك الغاية لا تتعارض مع مقاصد الشريعة، ولا تخالف نصوصها، فأن تُؤتَى البيوت من أبوابها مع البعد عن إشكاليات الربا وقلب الدين والتحايل هو المتعيِّن.
#3#
لكن ماذا عن تمويل المتاجرة في الأسهم بالهامش (أو ما يسمى بالمارجن)؟
ـــ يمكن القول إن من أبرز بدائل تمويل المتاجرة في الأسهم بالهامش Margin Trading التي طبَّقتها المصارف الإسلامية هو منتج: “تمويل المتاجرة في الأسهم بالهامش عبر عقد المرابحة”، الذي تشتمل هيكلته على جميعِ آلياتِ منتج المتاجرة بالهامش التقليدي وخصائصه الفنيَّة، مثل: إجراءات فتح محفظة المتاجرة بالهامش، وتحديد الحد الأدنى للهامش، وهامش الوقاية، ورهن المحفظة، وآلية تسييلها، إلا أن الفارق الرئيس بين هذا البديل والمنتَجِ التقليدي هو: تمويلُ السِّمسارِ للمستثمرِ من خلال عقدِ المرابحة للآمرِ بالشِّراء. هذا وبعد دراسة هذا المنتَج، وما اشتملَ عليه من تفصيلاتٍ فقد ترجَّح جوازُه؛ شريطةَ استجماعِه لضوابط شرعيَّة عدة أبرزها: أن تستجمِع عقودُ بيعِ الأسهمِ بالأجل شروطَ صحةِ عقدِ البيع وتنتفي عنها موانعُه، ومن أهم ما يؤَكَّدُ عليه في ذلك: تحقُّقُ العِلْمُ بالمبيع؛ وذلك بتحديدِ عددِ الأسهمِ المبيعة في كلِّ شركة، وتحديد ثمنِها، وأجل سداد دينها. وأن تكون جميعُ الأسهمِ التي تحويها محفظةُ المتاجرة في الأسهم بالهامش مباحةً ومستَجمعةً للضوابطِ الشرعيةِ للأسهم. كما أن من الأهمية بمكان التأكيد على أنه يجبُ على البنكُ عند تسييله المحفظةَ الاستثماريةَ للعميل وعند بيعِ موجوداتها من الأسهم المرهونة ـــ أو بعضها ـــ أن يتمَّ تنفيذُ ذلك بسعرِ السُّوقِ، وألا يكونَ ذلك على وجهٍ فيه ضررٌ ظاهرٌ وبالغٌ على المستثمر وعلى الاقتصاد برمَّته، كالأزمات الاقتصادية الطارئة وانهيارات الأسواق؛ إذ إن من المتقرِّر في القاعدة الفقهية الكبرى أن “لا ضرر ولا ضرار”، كما أنه يجب أن تخلو صفقاتِ المتاجرةِ في الأسهمِ التي ينفِّذُها المستثمرُ من التغريرِ والنَّجش، والغش والخداع، والاحتكار والتلاعب والتضليل.
هذا ويتحتم في هذا السياق التأكيد على قضية في غاية الأهمية وهي: أنه بالنظر إلى مقاصد الشريعةِ في المالِ ومقارنةِ ذلك بحقيقة منتج المتاجرة في الأسهم بالهامش، وما ذكره بعض الاقتصاديين من آثاره السِّلبية فإنه يظهر أن المجازفات (المضاربات) Speculation في الأسواق المالية ليست الخيارَ الاستثماريَّ الأمثلَ الذي ينبغي للمصارف الإسلامية تشجيعُه، فضلاً عن دعمِه بالدُّيون؛ وعليه فالأولى تحجيمُ هذا المنتجِ ومعالجة آثارِه السِّلبيَّةِ ـــ بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ ـــ بوضعِ جملة من الضوابط والمعايير. هذا وإن الدَّورَ الأكبر في هذا السِّياق يقعُ على عاتِقِ الجهاتِ الحكوميَّةِ المنظِّمةِ والمراقِبة للأسواق من خلال تقدير المصلحة في ذلك، وعدم السَّماح بنمو المضاربات والمجازفات بشكلٍ ضارٍّ بالأسواق، فضلاً عن إدارة حجم التمويلات التي تقدِّمها البنوك والمؤسسات المالية لأنشطة المضاربة في الأسواق المالية مقارنة بحجم التمويلات التي تُوَجَّه للتنمية الاقتصادية الحقيقية من صناعةٍ وزراعةٍ وتجارةٍ ذات القيمةِ المضافةِ والآثار الإيجابية على الفردِ والمجتمَع، فضلاً عن اتخاذ خطواتٍ عمليةٍ تحمي آحاد المستثمرين من التورُّط في حبائل القروض والتمويلات الكبيرة التي تفوق قدراتهم على السَّداد التي يجذبهم إليها السعيُ خلف سرابِ الثراءِ السَّريع.
أما الشق الثالث من السؤال فيتحدث عما نشأ في الواقع المصرفي المعاصر مما يُسمَّى بـ (شراء المديونيات المؤجَّلة للبنوك) أو (سداد مديونيات البنوك)، والمرادُ به: “أن يتقدَّمٌ مدينٌ ـــ فردٌ أو منشأة ـــ إلى مصرفٍ ليسدِّد عنه ـــ أو يموِّله ليتمكَّن من سداد ـــ دينه القائم لمصرفٍ آخر، وِفقَ آليَّةٍ محدَّدة”. إلا أنه لما كان محلَّ اتفاقٍ بين فقهاء العصر على تحريم الآلية التقليدية لشراء المديونيات المؤجَّلة على الغير التي تنتهجها البنوك التقليدية، التي تقوم على شراء دين العميل النقدي المؤجَّل بنقدٍ؛ لاشتمالها على ربا الفضل والنسيئة؛ فقد سعت المصارف الإسلامية إلى استحداثِ بدائلَ منضبطة بالضوابط الشرعية لتسديد مديونيات العملاء للبنوك والمصارف الأخرى ـــ أو ما يُسمَّى بشراءِ المديونيات المؤجَّلة ـــ وإن من أبرز ما اقتُرَح في ذلك منتج: “إنشاء دينٍ جديدٍ للعميل مع اشتراط سداده الدَّينَ الأوَّل”. وقد حظي هذا البديل بتطبيق واسعٍ في المصارف الإسلامية لتمكين العملاء من سداد مديونياتهم القائمة للبنوك الأخرى، الذي يتمُّ من خلال إبرام عقدِ تمويلٍ مباح جديدٍ مع العميل، واشتراط سداده لدينه القائم للبنك الأول، وتحويل راتبه على المصرف بعد ذلك مباشرة، ضِمنَ شروطٍ وإجراءاتٍ محدَّدة. وبعد دراسة تفصيلية لهيكلته؛ فالذي يظهر جوازه شريطة استجماع ضوابط شرعية عِدَّة، من أبرزها: أن يتمَّ تنفيذ التمويل وإنشاء المديونيَّةِ وِفقَ أحد عقودِ التمويل الشرعيَّة المجازة، مع أهمية استيفاء الضوابط الشرعية لذلك العقدِ وسلامته من الموانع والمحظورات، وألا يكون هناك تواطؤ بين البنوك على تسديد مديونيات عملائها، على وجهٍ فيه قلبٌ للدين بزيادةٍ على المدين.
#4#
كيف تقيمون واقع المصرفية الإسلامية، خاصة بعد تأكيدكم أن عقود التمويل يجب أن ترتبط بالنشاط الحقيقي؟
ـــ تشير بعض الإحصاءات إلى أن أكثر من 90 في المائة من عقود التمويل المطبقة في المصارف الإسلامية حالياً هي عقود تورق ومرابحة، وهذا يمثل أهم الإشكالات والتحديات التي تواجه المصرفية الإسلامية ويجب أن نقف ونتأمل فيه طويلاً، كما أن بعض العقود قد رأى بعض مشايخنا وعلمائنا إجازتها في بادئ الأمر عندما كانت المصرفية الإسلامية في بداية طريقها لتشجيعها، أما الآن فقد أصبح الوقت يحتم علينا الوقوف لتصحيح المسار والعودة بالمصرفية الإسلامية إلى المقاصد والغايات التي تكلم عنها منظروها الأوائل، يجب أن ننظر كيف كان نظر المؤسسين الأوائل للمصرفية، وأين هي الآن؟ يجب أن نعود بها إلى المسار الأول وما كنا نتحدث عنه من المثل والمبادئ العليا للمصرفية الإسلامية، كذلك يجب علينا أن نوسع دائرة الأفق وألا نحصر أنفسنا في عقود التمويل في المصارف أو ما يسمى بالمصارف التجارية، يجب أن نكون أوسع أفقاً، فالاقتصاد الإسلامي أوسع من مجرد عقود تمويل في المصارف ومن استثمار في سوق الأسهم، يجب أن نعتني بالاقتصاد الإسلامي في إطاره الأعم والأشمل بما فيه من جوانب متعددة، مثل العناية بمستجدات الزكاة وما يتعلق بها، ويجب أن نهتم بأوجه مهمة جداً تحقق مُثُل الاقتصاد الإسلامي وغاياته بشكلٍ أكثر جلاء مثل: ما يسمى باستثمارات رأس المال الجريء Venture Capital؛ أرى أن هذا النوع من الاستثمارات من أهم الأشياء التي يجب أن نلفت لها العناية ونوجه لها الجهد ونعقد لها المؤتمرات، لأنها تمثل إضافة حقيقية وتحقق مقاصد الشريعة، الشرق والغرب يطبقان هذا النوع من الاستثمارات، وأثبت نجاحه، ما يتعلق مثلا بالاستثمارات الخاصة Privet Equity، هذه بعض أنواع الاستثمارات الحقيقية التي يجب أن نقيم لها المؤسسات وأن تُوفَّر لها البنية التحتية ونشجعها بالبحوث والمؤتمرات والملتقيات، فلماذا نظل ندور في فلك المرابحة والتورق، فإذا عقدنا مقارنة كم مؤتمر أو منتدى عقد لمناقشة الاستثمارات في رأس المال الجريء أو الخاص أو مستجدات الزكاة، وكم مؤتمر عقد لمناقشة الإيجار المنتهي بالتملك أو التورق أو المرابحة أو بطاقات الائتمان؛ سنجد أن هناك فرقاً كبيراً، لذلك يجب أن نوسع النظرة أو الرؤية.
#5#
متى سنجد أن أخلاقيات التمويل الإسلامي تتحقق على أرض الواقع بدلا من إطلاق النصوص بشكل نظري؟
ـــ نعود إلى ما سبق، فالمصرفية الإسلامية ليست محصورة في كيف أبيع بطاقة ائتمان أو أموِّل شراء منزل أو سيارة، الاقتصاد الإسلامي له أفق أوسع وأشمل من ذلك كله، ومن أهم ركائزه العنصر الأخلاقي، فأين محاربة الغرر والغش والخداع والتدليس وقلب الدَّين؛ لذلك نحن نحتاج إلى مزيد من التوعية بالجانب الأخلاقي للمصرفية الإسلامية تنظيراً وتطبيقاً.

البعض ينكر وجود صناعة مصرفية إسلامية بالمعنى الحقيقي ـــ رغم وجود مالية وتمويل إسلامي معترف به، لكن ما يؤخذ عليها عدم وجود ملامح وإطار محدد لنظام اقتصادي إسلامي متكامل؟
ـــ كما ذكرت في سياق متقدم أن المصرفية الإسلامية، جزء من إشكالياتها أن هناك خللاً في الواقع وفي التطبيق، وهذا يندرج على جملة من منتجاتها التي غلبت عليها الحيل، ومن ذلك ـــ على سبيل المثال ـــ بعض أنواع الصكوك لا فرق بينها وبين السندات إلا أنهم قاموا بتغيير الاسم من سند إلى صك والعائد عليها من فائدة إلى ربح؛ بينما الحقيقة والمآلات والنتائج شبه متطابقة، إن مثل هذا النوع من المنتجات التي تغلب عليها الحيل تفقد المصرفية الإسلامية مصداقيتها؛ فالشخص الذي كان يتعامل مع المصرفية التقليدية وقتا طويلا وجاء ليعرف ويرى هذه الصكوك أو هذا المنتج أو هذا المصرف، فهو في الحقيقة شبه متطابق فقط مع تغيير الأسماء أو الألفاظ، فلا شك أنه يفقد المصداقية وفي النهاية يقول: أين الفرق وأين الجديد الذي جئتم به؟ فما أنتم عليه نحن الآن نطبقه، لذلك فأحد ما نهدف إلى معالجته عاجلا ونوجه الجهد له هو تنقية وتصفية المصرفية الإسلامية مما يشوبها من أخطاء، نحن ندرك أنه مع كل جهد بشري يمكن أن تكون هناك أخطاء ومشكلات، لكن يجب أن نسارع في الاعتراف بهذه الأخطاء وضرورة العمل على تصويبها وتصحيح المسار.

وجه للمصرفية الإسلامية كثير من الانتقادات في الفترة الأخيرة سواء من الداخل أو من الخارج، كيف يمكن الرد على هذه الانتقادات، وهل كل هذه الانتقادات في محلها وأصحابها على حق؟
ـــ من طبيعة الأمور أن يكون هناك نقد بناء ونقد هدام بصرف النظر عن المقاصد أو النيات، لكن من صيغة الخطاب هناك نقد بناء وإن قسا في اللفظ وجزء آخر من النقد نقد هدام يقصد القضاء على هذه المصرفية الإسلامية، وأنه لا جدوى منها، لذلك يجب أن نلغيها. علينا ألا نلتفت طويلا ونقف أمام من يريد هدم هذه المصرفية الإسلامية، أما أصحاب النقد البناء فيتعين علينا أخذ هذا النقد على محمل الجد والاهتمام، حتى وإن كان نقدهم قاسيا في بعض الأحيان، فكثير منهم من يحب ويريد الخير للمصرفية الإسلامية فهو يقسو عليها حتى تصحح مسارها، من هنا يتعين علينا أن نقر بأن هناك أخطاء في المصرفية الإسلامية ويتعين استيعاب هذا النقد وهذه الأخطاء، والإسراع حالا في معالجتها ، فالأمر يحتاج إلى خطة استراتيجية ذات نظرة طويلة الأجل ويجب أن أعرف حتى بعد 50 سنة أهدافي التي أريد تحقيقها، والآلية التي تساعد على تحقيقها، فإذا لم تكن هناك رؤية واستراتيجية أو قياس للإنجازات أو الإخفاقات فلن نعرف أين نحن سائرون.
وهناك من ينتقد المصرفية الإسلامية وهو من أبنائها، حيث يرى أن المصرفية الإسلامية ليست تدرجا وإنما استدراجاً، تتراجع إلى الوراء وهذا مكمن الخطر، فليس عيبا أن نتدرج ولكن العيب أن نتراجع، لذلك أرى من وجهة نظري أن جزءا كبيراً من النقد الموجه للمصرفية الإسلامية هو نقد حقيقي في محله، فالمطلوب أن نسعى في أسرع وقت ممكن لتكوين رؤية ونضع استراتيجية، وأن ننظر بمقياس الأرباح والخسائر أين وصلنا وأين نريد أن نصل؟
#6#
هل هناك جهات معينة تحمل رؤية وتنظيرا للمصرفية الإسلامية حسبما أرادها الأوائل؟ وإذا كانت موجودة لماذا لا يكون لها حضورها؟
ـــ الأهداف العامة والخطوط العريضة أعتقد كانت موجودة، لكن الاستراتيجية متوسطة المدى وبعيدة المدى لتحقيق هذه الغايات والأهداف نحن نفتقدها، وما يجب أن يوضع الآن من خلال استثمار الأدوات والآليات الحديثة للإدارة، وأرى أن أفضل الجهات المهيأة والمؤهلة للقيام بهذا الدور هي الجهات غير الربحية من المنظمات والجمعيات المعنية بالاقتصاد الإسلامي وكراسي البحث ومراكز الدراسات المتخصصة، يجب أن تتفاعل هذه الجهات وتكوِّن رؤية للمصرفية الإسلامية وأن تقارن مدى بعدنا وقربنا من الغايات والأهداف التي بدأت المصرفية الإسلامية بها، وأن نعترف بالأخطاء الموجودة ونحددها، وما الأولويات للعلاج والتثقيف.

لم تستطع المصرفية الإسلامية أن تسوق نفسها بشكل حقيقي كبديل، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية، ليس بديلا كليا وإنما تعبر عن حضورها الفاعل؟
ـــ في البداية يجب أن نقرر أن المصرفية الإسلامية لا تعيش بمعزل عن المتغيرات الاقتصادية العالمية، من هنا فإن المصرفية الإسلامية قد تأثرت بالأزمة المالية العالمية سواء بشكلٍ مباشر أو بشكلٍ غير مباشر، لكن بلا شك أن المصارف التي كانت أقرب إلى تحقيق الشريعة الإسلامية في واقعها التطبيقي ـــ مثلا البعد عن شراء الديون والمتاجرة في الديون، والبعد عن المشتقات المالية ـــ كانت بمنأى من التأثر المباشر بتداعيات الأزمة. لكن هناك بعض الجوانب العامة التي تؤثر في المنتجات والمصارف الإسلامية والتقليدية على حدٍّ سواء، كوجود الإشكالات الائتمانية سواءٌُ أكان مديناً لمصرف إسلامي أم لبنك تقليدي، فعندما تموِّل شخصا فلا تدرسه ائتمانيا بشكل جيد، فإذا أخفق فهذا ليس راجعاً إلى كون العقد الذي تم عقدا شرعيا أو عقدا ربويا، فهو أخفق بسبب ائتماني فمن هذا القبيل يكون هناك تأثير على المصرفية الإسلامية، لذلك انكشف بعض الناس لوجود ثغرات ائتمانية في مسيرتهم، انكشفت بعض هذه العقود الكبرى في الأزمة المالية العالمية سواء بعض الأشخاص في العالم العربي الذين مولوا تمويلاً شرعياً من المصارف الإسلامية ومن المصارف التقليدية وأخفقوا هنا وهناك، وهذا ليس للعقد في ذاته وإنما الإخفاق كان إخفاقاً ائتمانياً أو لغيره من الأسباب.
المهم أعود وأؤكد أنني أرى أن المصرفية الإسلامية لم تستثمر الأزمة العالمية الاستثمار الأمثل للتسويق لمبادئها ومثلها وأخلاقياتها، كان لها دور مشهود وجهود جيدة أثناء الأزمة ونالت شهرة كبيرة إقليمية وعالمية، سواء في أوروبا أو آسيا أو أمريكا وأشاد بها كافة الخبراء والمختصين العالميين، بل نادى الجميع بضرورة اتباع النهج المصرفي الإسلامي في مصارفهم ومؤسساتهم المالية والاقتصادية، والاستعانة بالنهج الإسلامي في تشريعاتهم ولوائحهم التنظيمية والقانونية. حتى لا يتكرر ما حدث في الأزمة العالمية الأخيرة، لكن ـــ مع الأسف الشديد ـــ رغم ذلك لم تستثمر المصرفية الإسلامية الاستثمار الأمثل في تسويق أخلاقياتها ومبادئها.

الأكثر قراءة