المسألة الحزبية في الفكر الإسلامي المعاصر

أجمع رواد الفكر الإسلامي المعاصر، في تنظيرهم لمسألة التعددية السياسية، على التوافق على ضرورة وجود الأحزاب السياسية في المجتمعات العربية والإسلامية، مخالفين بذلك، رأي أستاذهم حسن البنَّا، الذي أنكرَ وجوب وجود الأحزاب وتعددها، ودعا إلى تماسك الأمة بعيداً عن النعرات الحزبية.
فمحمد الغزالي، أيَّد وجوب وجود الأحزاب وتعددها، وتابعه، معاصره يوسف القرضاوي الذي دعا إلى تحقيق التعددية الحزبية، كضرورة من حيث عملها على نصح الحاكم، مشبّهاً هذا التعدد بتعدد المذاهب في مجال الفقه.. كذلك، أيَّد، كل من: طارق البشري وتوفيق الشاوي، جواز إنشاء التنظيمات الحزبية، وإن رأى الشاوي في الديمقراطية الغربية احتكاراً للسلطة من قبل حزب واحد، أو أحزاب مستأنسة، ألا أنه رأى أن النظم المعاصرة حققت تقدماً في مجال التصويت والانتخاب، وإن أدَّيا، برأيه، إلى تحويل ميدان السياسة إلى حلبة صراع على السلطة بين الأحزاب! أما سليم العوّا، فيؤسس نظرته للأحزاب السياسية على رأي ابن تيمية المُجيز لها، بالتالي، يرى أن كل حزب قامت مبادؤه في اتساق مع مبادئ الإسلام فليس ثمة ما يمنع من تكوينه في الدولة الإسلامية.. وصولاً إلى راشد الغنوشي، الذي وضع حتمية الحل الديمقراطي، مقابل حتمية الحل الإسلامي الذي بلوره القرضاوي واللاحقون.
إذاً، آثر الفكر الإسلامي المعاصر، بغالبيته، القول بضرورة الأحزاب، في محاولة لاستحضار تقنية من تقنيات الغرب وإسقاطها على البيئة العربية والإسلامية، دون أن يمنعهم ذلك من الإشارة إلى سلبيات الأحزاب، الناتجة عن فساد الأنظمة الانتخابية، الذي يؤدي إلى وجود أحزاب فاسدة تسيطر على الحكم، أدى، إلى جانب التدخلات الخارجية، إلى فشل الديمقراطية السياسية في العالم العربي!
ولكن، هناك اتجاه آخر، لم يرَ في الأحزاب الصورة النهائية في الصياغة السياسية، حتى في الغرب، فحسن الترابي، وصف هذه الهيئات على أنها مجرد مصالح، واتجاهات، وزعامات شخصية ودينية، وكتل مختلفة، كلها تصطرع بغير حرب حية.. لتحقيق أهدافها ومعادلاتها.. وهي نظام الحكم!
كذلك، هناك اتجاه، يمكن أن نسميه بالمحافظ، الذي رأى أن للأحزاب سلبيات على الثقافة والشخصية الإسلامية، وبؤرة فساد تنعكس على المجتمع الإسلامي، الذي يجب أن يكون متلاحماً ومنقاداً إلى تعاليم الشريعة الإسلامية، التي تحرّم الخروج عن الجماعة، وربما استند إلى حديث "افتراق الأمة"، المنسوب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتصبح الفرقة الناجية هي الفرقة المتلاحمة فيما بينها.
إن استعراضاً للتجارب السياسية التي أُسقطت على العالم العربي والإسلامي، تؤكد لنا، من خلال رؤية حركية التاريخ، أن الأحزاب، بمفهومها الغربي، لم تنجح في تحقيق المجتمع الفاضل، بل ساهمت في تمزيق النسيج الاجتماعي، وتشويه الحكم ورسالته.. وفي المقابل، يمكن رؤية مجتمعات أخرى استطاعت بناء دولة مستقرة، من خلال مفهوم: "أهل الحل والعقد" أو "أهل الشورى"، كهيئة أخذت على عاتقها، كونها صلة الوصل بين الحُكَّام والمحكومين، تدبير شؤون المجتمع، فاستغنى المجتمع عن الأحزاب، التي لا تهدف في نهاية الأمر إلا إلى السيطرة على السلطة.
وإذا كان الفكر الإسلامي الحديث قد خاض في هذه المسألة ولم يصل إلى حسم بائن، فإن الفكر الإسلامي المعاصر لا يزال يخوض في معتركها، وإذا كان الأول قد فُجع بعدم تبلور "الحزب الإسلامي" المثالي، فلربما فُجع المعاصرون بعدم تحقيق هذه الهيئة السياسية للمجتمع الفاضل؟ ثم، هل الأحزاب، بالصيغة الغربية، ضرورة للمجتمع الإسلامي؟ حتى الآن، يمكن القول إن التعددية الحزبية، وتداول السلطة لم تؤديا إلى رفع الاستبداد، وتطوير المجتمعات.. بل يمكن القول إن اصطراع الأحزاب، لم يؤد إلا إلى استبدال سلطة استبدادية بأخرى شرّا منها، هذا ما تنطق به التجارب! ثم، إذا سلمنا جدلاً أن الأحزاب هي الدواء الشافي لمجتمع ما، فلا يجوز تعميم هذا الدواء على كل المجتمعات؟ والأهم من كل ذلك: هل عرفت المجتمعات العربية تلك الديمقراطية التي يدّعيها مثقفوها؟ يبقى أن هذه المسألة سبق أن ردَّ عليها جمال الدين الأفغاني، إذ رأى: أن "الأحزاب السياسية في الشرق نعم الدواء، ولكنها لا تلبث حتى تنقلب إلى بئس الداء، ثم، إذا ما تم للحزب ما طلبه من الأمة، واستحكم له الأمر، ظهرت في رؤساء الأحزاب، الأثرة والأنانية، ومدّ حب الذات عنقه، فتتقلص من القلوب تلك الطاعة، وتنكمش النفوس عن ذلك الانقياد، وتحصل بالنتيجة النفرة العامة"!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي