دونالد رامسفيلد يرى العالم أفضل بعد الحرب على العراق

دونالد رامسفيلد يرى العالم أفضل بعد الحرب على العراق

بعد ظهر يوم أحد هادئ في واشنطن العاصمة، كنت أجلس حول طاولة في مطعم فندق مايفلاور، وأنتظر أن ينضم إليّ أحد أكثر الرجال إثارة للخلاف في تاريخ أمريكا الحديث. وكان دونالد رامسفيلد يشغل منصب وزير الدفاع إبان رئاسة جورج دبليو بوش، وإلى جانب الرئيس ذاته، أصبح الوجه المعروف لعملية غزو العراق. وترك المنصب في نهاية عام 2006، بعد مرور ثلاث سنوات على الصراع، وهو مكروه من جانب معارضي الحرب، ومن جانب العديد من أكثر مؤيديها حماساً.
بالنسبة إلى الحركة المناهضة للحرب، أصبح رامسفيلد وجه صراع وحشي ومضلل. وكان بذاته الرجل الذي اعتبر رد فعله إزاء عمليات النهب في بغداد ـــــــــــ ''هذه الأمور تحدث'' ــــــــــــــ خلاصة عدم اعتبار قاسي الفؤاد لعواقب الغزو. ولكن بالنسبة إلى الكثيرين من أقوى مؤيدي الحرب، أصبح رامسفيلد كبش الفداء لكل شيء حدث بشكل خاطئ خلال السنوات الأولى من الحرب. واتهم برفضه على نحو عنيد بغباء إرسال قوات كافية، وبإهمال المهمة الحيوية لبناء الدولة في العراق.
أما الآن، بعد مرور أربع سنوات على استقالته، ينشر رامسفيلد روايته الخاصة للأحداث في كتاب بعنوان ''المعلوم والمجهول Known and Unknown''. ويقع مقهى كافيه برومنيد الذي نلتقي فيه، في فندق مايفلاور، أحد أفخم الفنادق في واشنطن. وهذا ليس مقهى فندق عادي ــــــــــــ يضم أعمدة رخامية، وسجاداً كثيفاً، وثريا ضخمة. وفي الساعة الثانية عشرة والنصف، كان في المقهى ثلاثة أشخاص آخرين فقط في قاعة تتسع بسهولة لنحو مائة شخص.
يصل رامسفيلد في الوقت المحدد تماماً، ويلقي عليّ التحية بابتسامة دافئة قلقة. ويرتدي زياً رسمياً، عبارة عن بدلة رمادية اللون، وقميصاً بلون أزرق فاتح، وربطة مقلمة. ويجلس فوراً ويسألني سريعاً: ''هل قرأت الكتاب؟ ماذا كان رد فعلك؟''
أقول إنني قرأت معظم الكتاب أثناء رحلة القدوم من لندن، واستمتعت بقراءته ـــــــــــــ تحديداً الفصول الأولى حول نشأته في ضاحية من ضواحي مدينة شيكاغو، وذكرياته بشأن بيع الجرائد، وحمل أنباء قصف ميناء بيرل هاربر (من قبل اليابان). ويضحك رامسفيلد بمتعة واضحة ــــــــــــ ويشير إلى أنه في سن 78 عاماً، كان حياً لنحو ثلث تاريخ الولايات المتحدة بأكمله. ويقول: ''إذا ضربت سني بثلاثة أضعاف، فسوف يأخذك إلى عام 1776... إنه أمر مدهش، إنه ثلث التاريخ الأمريكي''. ولمدة 54 عاماً من هذه السنوات كان متزوجاً من جويس، ولدى الزوجين ثلاثة أبناء.
حتى الكارثة الأخيرة المتمثلة في حرب العراق، كان رامسفيلد يحظى بسمعة أكثر المديرين كفاءة في واشنطن. وتم انتخابه عضواً في الكونجرس حينما كان لا يزال في سن 29 عاماً، وعمل في وظائف عليا إبان رئاسة أربعة رؤساء مختلفين ـــــــــــ نيكسون، وفورد، وريغان، وبوش. وأعطته الفترتان اللتان عمل خلالهما كوزير للدفاع ـــــــــــــــ يفصل بينهما ربع قرن من الزمن ـــــــــــــــ ميزة كونه أصغر، وأكبر رجل سناً شغل ذلك المنصب.
كان مشهوراً في واشنطن بأنه يعمل وهو واقف، ويقول لي إن هذه ما زالت عادته. ويضم مكتبه الأرشيف الخاص به، ومؤسسة رامسفيلد التي تساعد الجنود المتقاعدين، من بين أشياء أخرى. وأسأله عن وقت نهوضه من الفراش صباحاً، ويجيب دون أن يبتسم:''أنهض من الفراش الساعة الرابعة والنصف، أو الخامسة صباحاً، وأقوم ببعض التمارين الرياضية العامة، وأقرأ الصحيفة في غرفة الساونا''. وتبدو طريقته في الحياة وكأنها إسبارطية بشكل هزلي على الأغلب. واقترح أن نطلب شيئاً لنأكله، وبدا مندهشاً حقيقة حيث يقول: ''هل تريد شيئاً لتأكله؟'' وتم استدعاء النادل، وطلبت الأفكادو وسلطة البيكون. وطلب رامسفيلد كوباً من حساء ثمار البحر، وعصير الليمون.
يعرف رامسفيلد كذلك بسمعة الشراسة في البنتاجون. وفي كتاب مذكراته، يكتب عن بول بريمر ـــــــــــ الدبلوماسي المكلف بإعادة بناء عراق ما بعد الحرب ـــــــــــ بأنه يشتكي من أن العديد من موظفي رامسفيلد كانوا مرعوبين من شخصه. وأسأل رامسفيلد ما إذا كان ذلك صحيحاً، وأتلقى ابتسامة متواضعة، ويقول: ''لم أسمع أي شخص آخر يقول ذلك، لذا فإنني لا أعطي الأمر الكثير من الصدقية''.
أتساءل بصوت عالٍ ما إذا ''كنت كقائد ينبغي أن تكون مخيفاً إلى حد ما''؟ ولكن رامسفيلد يتمتم قائلاً: '' كلا، في واقع الأمر لا تريد أن تكون كذلك. والحقيقة هي أن مهماتي كانت صعبة، وكان لدي الكثير منها، وأكون مرتاحاً إزاء اتخاذي قرارات صعبة، وأطرح أسئلة صعبة... وهذه ليست متعة للأشخاص في بعض الأحيان... ولكنني شخصياً كنت دائماً منفتحاً لعودة الأشخاص''.
مما لا شك فيه أن كتاب رامسفيلد ولد الكثير من النتائج القاسية بالنسبة إلى أولئك الذين ينظرون إليه على أنه تمرين مطول لتبرير الذات، وتصفية الحسابات. وعلى نحو لا يدعو إلى الدهشة، يرى رامسفيلد الأشياء بمنظور مختلف. وأثناء تناوله عصير الليمون، يقول إنه كتب ''كتاباً جدياً لتاريخ متجذر في الوثائق الرئيسة التي سأضعها على الموقع الإلكتروني، وسيكون المؤرخون، والقراء المهتمون، والأشخاص الجادون، قادرين على الاطلاع عليها وإصدار أحكامهم الخاصة''.
حينما أدعوه لمناقشة التعليقات الناقدة إلى حد ما في كتابه حول الزملاء السابقين، مثل كونداليزا رايس، التي انتقدها بسبب تفاديها اتخاذ خيارات صعبة كرئيسة لمجلس الأمن القومي، يبدو أن غريزة رامسفيلد تتراجع. ويقول لي إن رايس ''امرأة ذكية وقادرة، دون أدنى شك في ذلك. وهي كذلك بارعة وصالحة''.
على أية حال، هناك بعض الخصومات الواضحة تماماً، ولا يمكن إخفاؤها. وأصبح السيناتور جون مكين، المرشح الجمهوري خلال أحدث انتخابات رئاسية، أحد أكثر المنتقدين لأسلوب رامسفيلد في الحرب على العراق. وتوجه الانتقادات إليه في كتابه لأنه ''سريع الاستفزاز، ويميل إلى تشكيل وتغيير مواقفه لتناسب وسائل الإعلام''. وكان رد فعل مكين إزاء هذه الإهانات هو تجديد انتقاداته لرامسفيلد، وتعليقه قائلاً: ''الحمد لله أنه أعفي من مهامه''. واقتبس العبارة، وأقولها لرامسفيلد الذي يجيب بابتسامة فاترة: ''تلك سمة نموذجية له إلى حد ما... لقد كان شخصاً انتهازياً. وأمضى فترة حملته بأكملها وهو يهاجم إدارة بوش، ولم يكن مرشحاً جيداً''. وبناءً على ذلك، هل قام رامسفيلد، الجمهوري طوال حياته، بالتصويت فعلياً لصالح مكين؟ يعبس قائلاً: ''قمت فعلياً، ولم يكن خياراً سعيداً''.
ستذهل تصفية الحسابات داخل واشنطن العديد من الأشخاص الذين روعتهم حرب العراق بكونها نقطة جانبية تماماً. وبالنسبة إليهم، فإن رامسفيلد مذنب لأنه أشرف على ''حرب خيار'' أدت إلى مئات الآلاف من الوفيات. وعلى النقيض من روبرت مكنامارا، وزير الدفاع إبان جانب كبير من حرب فيتنام الذي كان لاحقاً صريحاً للغاية بشأن أسفه، فإن رامسفيلد غير نادم. وفي الكتاب، والنقاش كذلك، يقدم حرب العراق على أنها مبررة، وناجحة على المدى البعيد. ويسألني بنشاط قائلاً، قبل أن يجيب على سؤاله: ''هل بلادنا، والمنطقة أفضل حالاً بذهاب صدام حسين؟ بالتأكيد''.
لكن، أشير إلى أن التبرير للحرب كان امتلاك العراق المزعوم لأسلحة الدمار الشامل ــــــــــــ ولم يتم إيجاد أسلحة الدمار الشامل على الإطلاق. وأسأل قائلاً: لنفرض أننا كنا نعرف أنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل، فهل كان الذهاب إلى الحرب سيكون مبرراً رغم ذلك؟ يذهلني رد رامسفيلد لكونه مراوغاً وغير ذي صلة. ويجيب: ''كما يبدو. لقد وافق الكونجرس على تشريع لتغيير النظام خلال تسعينيات القرن الماضي، وكانت الموافقة ساحقة. والآن، لا يمكنك أن تعرف ماذا ستفعل. وما تعرفه الآن سيساعدك في ما ستقوم به في المستقبل. ولا يمكن أن يساعدك بخصوص ما جرى في الماضي''.
لكن هل كانت حرب العراق تستحق فعلياً جميع هذا الألم والمعاناة؟ تصبح لهجة رامسفيلد أكثر حدة، ويسأل: ''هل زرت على الإطلاق حقول القتل التي قتل فيها صدام حسين مئات الآلاف من الأشخاص، وعمليات الدفن الجماعي، والسجون المريعة التي لديه، وغرف الاغتصاب؟ لدي أشرطة فيديو تصور ما فعلوه بمعارضيهم السياسيين. لقد قاموا بقطع ألسنتهم''. وأما بالنسبة للجنود الأمريكيين الذين ماتوا ـــــــــــ ''كانت لديهم عائلات، وأطفال، ومما لا شك فيه أن ذلك يفطر القلب... ولكن ما فعلوه هو أنهم حرروا ملايين الناس''. ومثل توني بلير، يقوم رامسفيلد بمنح الأرباح المتأتية من كتابه لمساعدة الجنود الجرحى. وعلى النقيض من بلير، فإن قرار رامسفيلد ليفعل ذلك لم يستفز أي رد فعل غاضب.
رغم جميع جهوده لأخذ وجهة النظر طويلة الأجل، ولتقديم نفسه كرجل دولة أكبر سناً ومستقل، من الواضح أن رامسفيلد ما زال غاضباً من تغطية ''الحرب على الإرهاب'' والأحداث التي أحاطت بها. ويتذمر من أن التقارير بشأن قيام حراس السجن في خليج غوانتانامو بإغراق سجين كوري في مياه المرحاض سببت أعمال شغب ووفيات ــــــــــــ ولكن اتضح لاحقاً أن ذلك غير صحيح. واعتذرت الصحافة في النهاية ـــــــــــ ويقول ''لو أن جزءاً من قصتها غير صحيح، فإنها آسفة... وبطبيعة الحال، فإن الناس الذين تأسفوا إليهم كانوا متوفين. والآن الجميع يرتكب الأخطاء، وهذا عدل، ولكن لا يوجد عقاب لذلك''.
جميع هذا الحديث عن ارتكاب أخطاء مميتة، وعدم دفع ثمن شخصي لقاء ذلك يذكرنا بشيء ما. وبطبيعة الحال، فإن هذا تحديداً ما يغضب بعض الناس بشأن بصيرة وزير دفاع سابق كبير السن، وهو يتناول غداءً مريحاً يوم الأحد في فندق في واشنطن، بينما تستمر عمليات القتل في العراق وأفغانستان. وبأقصى ما أستطيع من اللباقة أقول: سيقول البعض: ها هنا رامسفيلد، ربما كان مخطئاً بشأن حرب العراق‘، فما هي النتيجة بالنسبة إليك؟
تبقى لهجة رامسفيلد دون تغيير. والإشارة الضعيفة الوحيدة على قلقه حينما يرد هي قيامه بلف، وتفكيك، وعصر منديل الطعام بيده اليسرى. ويقول: ''حسناً، أعني أن هناك العديد من الناس الذين يعلقون على ذلك بشأن أفغانستان، أو العراق، أو التغيير، وعلى أي شيء تفعله... وهذا أمر يختلف تماماً عما أتحدث عنه''.
طوال حياته المهنية، كان رامسفيلد دائماً رجلاً يهمه فوق كل شيء حماية، وزيادة القوة الأمريكية. وبناءً عليه، أتساءل ما إذا كان لديه أي ندم بهذا الصدد. فهل يعتقد أن العراق، وأفغانستان جعلت الولايات المتحدة تبدو أقوى، أو أنها أضعفت أمريكا من بعض النواحي لأن الحروب طالت لفترة طويلة للغاية؟ وأتوقع رفضاً قوياً آخر، ولكن بدلاً من ذلك، كانت هناك فترة صمت طويلة، ويجيب رامسفيلد ببساطة: ''الزمن سيكشف عن ذلك''.
أنهيت طبق السلطة منذ فترة، لذا أقترح أن نتناول القهوة على الأرجح. وأطلب كوبين من الإسبرسو. ويبتسم رامسفيلد إزاء هذا التدليل ويقول: ''لست بحاجة إلى كافيين''. ويطلب قهوة دون كافيين.
أثناء استعدادنا للمغادرة، نعود إلى الحديث في موضوع عادي يعشقه الذكور ـــــــــــــ الرياضة. فقد كانت هناك مباراة من مباريات السوبر بول ـــــــــــــ أهم لعبة في موسم كرة القدم الأمريكية ــــــــــــــ في تلك الليلة، ويسأل رامسفيلد ما إذا كنت أؤيد بتسبيرج ستيلرز، أو جرين باي باكرز. وأقول إنني أفضل ستيلرز، لأن لدي ذكريات وأنا أشاهدهم يلعبون بعض المباريات الملحمية ضد أوكلاند ريدرز، في أولى زياراتي إلى الولايات المتحدة خلال سبعينيات القرن الماضي. ويقول: ''لا أحد يمكنه أن يؤيد ريدرز، إنهم شريرون''. وعند هذه اللحظة، يضحك الرئيس السابق للبنتاغون من القلب، ويعود إلى مكتبه، وأرشيفه من الوثائق.

الأكثر قراءة