بأية «روح» نفهم الموقف الغربي؟

كل الذي نخشاه هو أن الثمن الذي يجب أن تدفعه المنطقة للمساهمة في تجاوز (الأزمة المالية الكبرى) في أوروبا وأمريكا هو هذه القلاقل وهذا التهييج، والهدف: إيجاد أزمة سياسية كبرى في المنطقة!
الموقف الغربي الأخير من الأحداث في مصر, وبالذات من الرئيس حسني مبارك, رغم أن ظاهره التعاطف مع الديمقراطية وحقوق الإنسان, وهذه دون شك غايات نبيلة يشكرون كثيرا على الاهتمام بها, لكن هذا الموقف في باطنه النفاق السياسي والشوفينية التي تكشف أن الغرب يسعى فقط لمصالحه .. فقد كان مع الرئيس ضد الشعب, والآن مع الشعب ضد الرئيس!
هنا نحن لا ننازع ونقارع أمريكا وبقية الدول الغربية الرئيسية في حقها, لها مطلق الحرية في أن تقرر مصالحها, والقوى العظمى تظل اللاعب الأكبر في حلبة الشطرنج, ولكن المزعج هو هذا التبدل السريع في المواقف, من المساكنة والمشاركة إلى قيادة التهييج في المنطقة, وهذا التهييج يُقدم باسم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.. هكذا فجأة اكتشف الغرب أهمية حقوق الإنسان!
المؤسف في الموقف الغربي وبالذات الأمريكي هو عدم احترام (الوجدان الشعبي) في العالم العربي فقد طرحت الإملاءات بضرورة رحيل الرئيس مبارك والتلويح والتصريح لأنظمة أخرى, ولجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ذهبت إلى استفزاز، حتى من يرغبون في رحيل مبارك ولا يتعاطفون معه، عندما تبنت قرارا يدعو الرئيس المصري إلى الرحيل .. وفورا! (هذه النداءات العاجلة لماذا لا نسمعها لإسرائيل التي تنتهك الحقوق العربية كل يوم!).
ماذا يعني هذا؟
هل لدينا حكومة عالمية معينة تصدر الإملاءات وتتعامل مع زعامات ورؤساء الدول وكأنهم رؤساء مخفر شرطة؟!
لقد انشغلت المؤسسات السياسية الغربية وطفقت الماكينة الإعلامية الأمريكية والأوروبية في المنطقة في حملة التأجيج ويبدو أنهم سعداء بانطلاق فعاليات (الفوضى الخلاقة), وكل المؤشرات تقول إن أمريكا وبريطانيا وبقية الدول الأوروبية الكبرى الأخرى هي أكبر المستفيدين من القلاقل، وانعكاس ذلك على تهريب الثروات من المنطقة, وهذا ما حدث فعلا ويحدث الآن وغدا .. إعادة تدوير (البترودولار) هدف سام لأوروبا وأمريكا منذ أن أصبح النفط سلاح المنطقة للبناء ولإدارة المصالح السياسية.
الموقف الغربي, وبالذات الأمريكي, يقدم درسين مهمين, الأول يكشف عن خلل أخلاقي وازدواجية معايير أقرب إلى التنكر والازدراء بالحلفاء وبيعهم عندما تختل موازين القوى وتصبح الأطماع وحماية المصالح هي الهدف الأسمى والأبرز, حينئذ تظهر (الأجندة المخفية) .. تظهر للبسطاء، أما العقلاء المدركون لحركة التاريخ وطبائع الأمور فإن الأحداث لن تأخذ عقولهم على غرة, فهم يعرفون أن (الداروينية الاجتماعية) هي التي تحرك الغرب في سباق مصالحه, فالغرب يرى العالم صراعا بين القوي والضعيف .. فليس مهما أن يبقى الضعيف, فالحياة خلقت للأقوياء!
الدرس الثاني وهو المهم .. الدرس للحكومات والشعوب في المنطقة وهو أن تلتفت للداخل, تهتم بتقوية جبهتها الداخلية, تهتم بالتنمية المستدامة التي تكرس مقومات الحياة الكريمة, وكذلك عليها أن تفرز جيداً دوافع الذين ينادون بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, فهذه دعوة حق قد يراد بها باطل.
تاريخيا وحتى الآن، المعروف أن مسؤولي الغرب ينادون بالديمقراطية وحقوق الإنسان عندما تكون وسيلتهم لتوسيع دائرة الهيمنة السياسية وعندما تكون وسيلة تقودهم إلى مصالحهم بأقل تكلفة وبأقل تضحيات .. إنها (حسابات مدير الشركة)، الذي يبحث عن تعظيم العائد على رأس المال بأقل تكاليف تشغيلية! كلنا نعرف أن الدول الغربية، وبالذات أمريكا، علقت مواد في دستورها بعد أحداث "سبتمبر" تحت ذريعة حماية الأمن القومي، وجرت انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان أنكرها ووقف ضدها الشرفاء من الأمريكان والأوروبيين .. والحديث عن حقوق الإنسان يتبناه الغرب عندما يكون ورقة تخدم مصالحه، وعموما .. الغربيون بيوتهم من زجاج عند الحديث عن حقوق الإنسان!
مرة أخرى .. هل ما يحدث في المنطقة هو جزء من خريطة طريق غربية للخروج من الأزمة المالية العالمية الكبرى؟
لماذا في هذا التوقيت .. حيث بدأت دول المنطقة تتوسع في جذب الاستثمارات العالمية وتسعى للاستفادة من عوائد ثرواتها؟
أيضا .. لماذا هذه الأزمة رغم أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كانا يصدران التقارير الإيجابية عن اقتصاديات دول (MENA) ومنها المغرب، الجزائر، مصر، تونس، لبنان، وتركيا، والغريب أنه قبل ثلاثة أسابيع من انهيار تونس كان صندوق النقد الدولي يضع تونس في قائمة أفضل الدول في الأسواق الناشئة! وبعد هروب بن علي بدأ الصندوق نشر الغسيل والحديث عن البطالة والفقر والفساد، ألا تطرح هذه الأسئلة المحيرة حول تقارير البنك والصندوق عن الدول والثناء على أداء الحكومات وعلى سياساتها الاقتصادية والمالية .. هل تقاريرهم مبنية على معلومات خاطئة أم تتعمد التضليل للحكومات؟ سؤال آخر .. هل للأحداث علاقة بتدفق الاستثمارات من شرق آسيا ودول الخليج على مصر وشمال إفريقيا .. وهل هذا جزء من تصارع الكتل الاقتصادية الرئيسية، أي المطلوب هو إبعاد المنطقة عن الكتلة الشرقية؟
هل المطلوب، كمسار للتغيير في المنطقة، هو إثارة الشعوب على الحكومات عبر الحرب الاقتصادية وإحداث ضغوط على أسعار السلع الأساسية .. خصوصاً أن الصناديق الاستثمارية الغربية الضخمة التي تستثمر في العقود الآجلة هي التي تضارب عبر بورصات شيكاغو، لندن، وسنغافورة على السلع الأساسية، مثل: الرز، القمح، البترول، الزيوت، وغيرها، فهذه هي التي تتلاعب في الأسعار وترفعها والدول النفطية، بالذات المملكة، دائماً تحذر من المضاربات على النفط!
سؤال آخر .. كيف استطاعت كبار المصارف العالمية وبيوت الاستثمار الكبرى في أمريكا وأوروبا تصحيح وضعها في تونس واستطاعت أن تعزز مراكزها ضد الاستثمارات في البورصة في مصر قبل الأزمة؟
هنا يجب أن نشير إلى أن العوائد النفطية خلال السنوات العشر القادمة في دول الخليج تقدر بأكثر من خمسة تريليونات دولار .. أليست الاقتصادات الغربية أولى بفوائض هذه الأموال لإعادة استثمارها في الملاذات التقليدية الآمنة مثل الدولار والذهب، في أسواق أمريكا وسويسرا؟ وعموما، كناحية مهنية فنية على إدارة اللعبة السياسية بعيداً عن العواطف .. يجب أن نسجل الإعجاب بالقدرة على إدارة الفوضى الخلاقة .. السياسة هي فعلا (فن الممكن والمستحيل).

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي