الأوقاف الإسلامية في الدول العربية.. نمو متوقع في ظل نموذج «الطـــريق الثالث»
يكاد الخبراء يجمعون على أهمية الوقف الإسلامي في دفع عجلة التمويل وفقاً للشريعة نظراً لتفرد هذا النموذج. ويعتبرون أن الوقف بمثابة الطريق الثالث؛ فلا هو بالقطاع الاقتصادي ضمن أجهزة الحكومات الإدارية، ولا هو بالعمل الخيري غير الهادف للربح.
وفي هذا الإطار تكون سياسة الطريق الثالث هي الأنسب لتفعيل الأوقاف في الدول العربية، خاصة أن هذا القطاع يزيد حجمه على 105 مليارات دولار ـــ بحسب تقديرات دولية
يؤكد أشعر ناظم ـــ رئيس مجموعة الخدمات المالية الإسلامية لوكالة إرنست آند يونغ في البحرين ـــ أن قطاع الأوقاف الإسلامية يوفر قوة دافعة فريدة لنمو التمويل الإسلامي؛ وليس أدل على ذلك من أن حجم هذا القطاع يزيد على 105 مليارات دولار. وأضاف أن للوقف الإسلامي تاثيرا إيجابيا مهما في كافة القطاعات بما فيها قطاع إدارة الأصول التي هي في طور النمو في منطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن الأوقاف كانت دائماً جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الاقتصادية للدول الإسلامية، إلا أنها لم تكن تتمتع بهيكل رسمي كما هي عليه الآن يتيح لها إدارة الاستثمارات بشكل مهني متخصص، والاستفادة من هذا الكم الهائل من المال، مع التركيز على إحداث تأثير مستدام. وقال إن هناك كثيرا من الشركات الاستثمارية التي تتحين مثل تلك الفرصة، وهو ما يضيف بعداً جديداً لقطاع إدارة الأصول الإسلامية، مشيراً إلى أن الأغلبية العظمى من الأصول الوقفية هي في شكل عقارات، وقد تصل بين 70 في المئة و80 في المئة، من إجمالي أصول هذا القطاع.
أما النسبة الباقية فهي تتوزع في أسواق المال المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، وهي في أغلبيتها مؤسسات مالية إقليمية. وتقدر الأموال النقدية التابعة للأوقاف الإسلامية، التي تتوزع بين مؤسسات إدارة الأصول الوقفية وغيرها من المؤسسات الأخرى، بنحو 35 مليار دولار ـــ بحسب دراسات إرنست آند يونغ. ويتفق د. رفعت العوضي ـــ رئيس قسم الاقتصاد في تجارة الأزهر ـــ مع كون نظام الوقف أهم قاطرات تنمية قطاع التمويل الإسلامي. ويوضح أن توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق نجح في قيادة حزب العمال البريطاني من خلال برنامج الطريق الثالث، وكان كلينتون من أنصار هذا البرنامج، وهو برنامج يعتمد على ساقين هما الكفاءة الاقتصادية والجدارة الاجتماعية. وإذا كانت العولمة يمكن أن تحقق الكفاءة الاقتصادية فإن الوقف يمكن أن يكون أداة لتحقيق الجدارة الاجتماعية، وهناك 12 دولة أوروبية اتجهت للطريق الثالث.
ويرى أن مرونة هذا النظام من أهم عوامل نجاحه، حيث إن مجالات الوقف غير محددة. ويمكن أن تشمل إقامة الصناعات الحرفية ومراكز التدريب على الحرف والكمبيوتر والبحث العلمي وإنشاء الطرق والمرافق، خاصة أنه لا يقتصر على العقارات والأراضي ولكنه يمتد إلى الأموال المنقولة بل والخدمات.
صعوبات تقويم أداء وحدات الوقف الخيرى أهم التحديات
يشير تقرير "إرنست آند يونغ" إلى أن ثمة تحديات تواجه إدارة الوقف الإسلامي. ويرى أن استراتيجيات التوجه نحو الأسواق هي الأساس لمواجهة تلك التحديات. ومن أجل الوصول إلى مليارات الدولارات التي تشكل أموال الوقف الإسلامي، يجب أن تتوافر حوكمة موثوقة وبنية تشغيلية مضمونة للمحافظة على مكانة امتيازات الوقف. إضافة إلى ذلك يعد فهم طبيعة الجهات المانحة وآرائها واهتماماتها عنصراً جوهرياً لجمع الأموال الوقفية. وبالنسبة للمؤسسات المالية الإسلامية فإن قاعدة المستثمرين الحالية تشكل نقطة انطلاق جيدة، إذ تتكون من عملاء من ذوي الملاءة المالية المرتفعة وشركات عائلية.
#2##3#
وفي معرض تناوله لأهم التحديات يحدد أحمد تمّام ـــ الباحث في الوقف الإسلامي في جامعة الأزهر ـــ ملامح مشكلات الأوقاف القائمة، موضحاً أن أبرزها ضآلة العائد من استثمار أموال الأوقاف بالنسبة إلى حجم الأموال المستثمرة. وعلى سبيل المثال يصل حجم تلك الأموال في مصر يصل إلى 5 مليارات جنيه تدر عائداً بمقدار 100 مليون جنيه أي بنسبة 2 في المئة، برغم أن هذه الأموال مستثمرة في قطاعات الاقتصاد المختلفة كالزراعـــــة، والصناعة، والتجارة، والعقارات. ويعد العائد معدل استثمار أقل بكثير من العائد في الأنشطة المماثلة في الدولة. ومن الملاحظ ضياع نسبة كبيرة من أموال الوقف والاعتداء عليها في عدد من الدول الإسلامية، وذلك نتيجة كثرة القوانين والتشريعات المنظمة لإدارة الأوقاف. وثمة مشكلة تتمثل في قلة الوعي بأهمية الوقف مما أدى بدوره إلى عدم إنشاء أوقاف جديدة في دول كثيرة، على الرغم من أهمية الوقف في حياة المسلمين.
ويشير تمّام إلى أن الوقف الخيرى يعاني صعوبات تتعلق بقياس ورقابة الأداء وتتمثل في:
افتقار الوقف الخيري إلى المقياس النهائي لنجاح منظمات الأعمال وهو مقياس الربح وحصة السوق، الذي يؤدي إلى عدم توافر المقياس المقبول. وكذلك فإن عدم توافر عنصر الملكية الخاصة في الوقف الخيري لا يساعد على الاستفادة من الإشراف الحذر والحاد والدقيق الذي يمارسه أصحاب المصلحة في المنشآت التي تهدف للربح . ومن تلك الصعوبات أن الوقف الخيري يقوم بتقديم العون المالي والنفع للموقوف عليهم، الذين قد يتجاوزون عن عدم الجودة والكفاءة في أداء الخدمات. لذلك فهو يفتقر إلى وجود رد فعل العملاء تجاه الخدمات التي يقدمها لهم.
كما أن هناك تأثيرا واضحا لمصدر التمويل في القرارات المرتبطة بنوعية الخدمات الاجتماعية بصرف النظر عن حاجة المجتمع إليها، حيث يحدد الواقفون مجال صرف الريع، إضافة إلى ضعف نظم المعلومات المحاسبية المطبقة، حيث تعد أنظمة المعلومات المحاسبية المطبقة حالياً في الوقف الخيري من أهم وأكبر المشكلات التي يعانيها الوقف الخيري؛ إذ إنه ـــ في الغالب ـــ لا يتوافر في محاسبة الوقف الخيري المطبقة في الواقع العملي نظم معلومات محاسبية توفر معلومات تساعد على قياس وتقويم الأداء. ويضيف أنه يلاحظ عدم اهتمام المجامع العلمية المحاسبية في العالم الإسلامي بمجال محاسبة الوقف وتقويم الأداء فيه.
ومن الصعوبات التي تواجه عملية تقويم أداء وحدات الوقف الخيري؛ عدم وضوح الأهداف وتباينها، فالوقف الخيري ليس له عادة هدف واحد يسعى لتحقيقه وذلك بالمقارنة بالوحدات التي تهدف للربح فلها دائماً هدف واضح تسعى لتحقيقه لزيادة الربح بنسبة معينة أو الحصول على حصة من السوق، أما في الوقف الخيري فالأهداف اجتماعية عامة.
تزاوج الرقابة الشعبية والحكومية
تعد الإدارة الحكومية المركزية من المشكلات التي تواجه الأوقاف حالياً؛ فالأصل شرعاً أن تكون نظارة الوقف والولاية عليه للواقف أو من يعينه من ورثته أو غيرهم. ولكن أجازت القوانين نقل الولاية وبالتالي النظارة على الوقف للحكومة ممثلة في وزارات الأوقاف. وقد ولدت الإدارة الحكومية للوقف بشكل كامل دون مشاركة الواقفين أو الموقوف عليهم ـــ إحساساً لدى المسلمين بأن الوقف تم تأميمه بواسطة الحكومة وبالتالي خرج عن دوره الذي رسمه الشرع أو الذي تقتضيه طبيعة الحال.
ويشير د. سيد دسوقي إلى أن إلغاء عدد من الدول الأوقاف الإسلامية والاستيلاء عليها تسبب في إحجام القادرين على القيام بدورهم الاجتماعي كما كان يحدث في الماضي. ويرى أن الجهود الذاتية لا يمكن أن تحل محل الأوقاف لأن الأولى تفتقر إلى الأساس الديني الذي يمنحها التجرد والفاعلية.
وفي الإطار ذاته يرى د. محمد راغب ـــ أستاذ التاريخ الإسلامي ـــ أن تجاهل نظام الوقف يعد من الأخطاء الفادحة. ويشير إلى أن البروفيسور اليهودي إسحق رايتر قام بتأليف كتاب عن الوقف الإسلامي تعجب فيه من أن المسلمين أنفسهم هم من عملوا على تصفية هذا النظام الإسلامي الفريد. ويرى أن تميز هذا النظام ينبع من أنه يسمح بتداول الثروة وهي المعضلة التي استعصت على الكثير من النظريات والثورات.
#4#
ويطرح الدكتور فؤاد عبد الله العمر ـــ الأمين العام للأمانة العامة للأوقاف بالكويت، والخبير الاقتصادي لدى البنك الإسلامي للتنمية سابقاً ـــ تصوره لحل الإشكالية بين الوقف والسلطة. يعرض العمر في كتابه "إسهام الوقف في العمل الأهلي والتنمية الاجتماعية" أنه لا بد أن يحتل نظام الوقف موقعاً وسطاً بين السلطة ـــ ممثلة في الإدارة الحكومية ـــ والمجتمع ـــ ممثلاً في مبادرات مؤسسات العمل الأهلي ـــ فالسلطة يكون إسهامها مثمراً إذا ابتعدت عن "إدارة" الوقف، واكتفت بالرقابة عليه، وتوفيرها التسهيلات والإعفاءات اللازمة لنموه· أما ما حدث من تدخل السلطة في الوقف في القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد أضعف من أمر الوقف وإيجابياته في تلك المجتمعات الإسلامية المعاصرة· ويعرض لنماذج أو تجارب واقعية في امتزاج الوقف ومؤسسات العمل الأهلي، في دولة الكويت على سبيل المثال من خلال الأمانة العامة للأوقاف فيها.
ومن هذه النقطة يطرح د. منذر قحف الإصلاحات المطلوبة لتفعيل مؤسسة الوقف في الدول العربية. ويشدد على أن أول تلك الإصلاحات يتعلق بضرورة وضع نموذج إداري خاص بالأوقاف الإسلامية. ويتطلب الأمر إيجاد بنية تحتية مؤسسية لأعمال البر الاجتماعية والاقتصادية؛ لا هي تنخرط في الجهاز الإداري للدولة ولا هي تقوم على مبدأ الربح والمنافسة السائدين في أسواق المعاملات. ويشير إلى أن عملية الإصلاح تبدأ من ابتكار نموذج مؤسسي يقوم على فكرة إدارة الشركات المساهمة مع مراعاة الفارق الأساسي بين هذه الشركات وبين الأوقاف من حيث عدم وجود مالك بالنسبة للأخيرة.
وبالنسبة للرقابة على إدارات الوقف فيقترح أن تتألف من مرتكزين: رقابة شعبية، ورقابة حكومية. تقوم الأولى بالرقابة وفق معايير الكفاءة الإدارية والمالية مستنبطة من المعايير المطبقة في المؤسسات التي تهدف للربح مع مراعاة خصوصية الوقف. وتكون الرقابة الحكومية بمثابة خط الدفاع الثاني، وهو ما يستلزم إعادة تعريف وزارات الأوقاف بحيث تقسم إلى قسم لإدارة الأنشطة الدينية، والآخر للرقابة على استثمار الأوقاف.
أما النقطة الثانية التي يعرضها قحف لإصلاح الأوقاف في الدول العربية فتتمثل في الحاجة إلى تشريعات تشجع وتسهل قيام أوقاف جديدة. وفي هذا الإطار فإنه من الضروري بمكان تبني مبدأ المخصص التنموي في الأوقاف الجديدة بحيث يخصص جزء من العائدات الاستثمارية للوقف لزيادة رأسماله. وكذلك تبني فكرة المشروعات أو الصناديق الوقفية أو سنابل الخير لتيسير الوقف على الراغبين فيه من متوسطي الحال. ومن التشريعات المهمة أن يتم تقديم إعفاءات ضريبية وقانونية للواقفين ولأموال الوقف. وكذلك تقديم الحماية القانونية المشددة للأوقاف القائمة للحفاظ عليها.
يضاف إلى هذا ضرورة سن تشريعات لاسترداد الأوقاف المسروقة كما هو الحال في القانون رقم 91 لسنة 1411 هـ في الجزائر.
ومن الصيغ الوقفية المبتكرة التي من شأنها إصلاح مؤسسة الوقف في الدول العربية: إقرار مبدأ التوقيت في الوقف مثل وقف جزء من إنتاج شركة معينة لمدة محددة.
وكذلك الأخذ بمبدأ وقف الخدمات والمنافع والحقوق المعنوية مثل حق العبور وخدمات نقل أطفال المدارس وجمع النفايات ومكان صلاة العيدين وغير ذلك. ومنها قبول شرط الانتفاع الجزئي الدائم أو الكلي المؤقت للواقف أو لغيره. ويثني د. قحف على القانون الأردني في هذ الصدد، مشيراً إلى أنه يحتاج إلى توسع بحيث يشمل جميع أنواع الشروط. وكذلك الأخذ بمبدأ الوقف الذي تنقضي أصوله وإيراداته معاً خلال فترة زمنية محددة.