جازان: التضاريس تتدخل في تنوع العمران وأشكال المباني الهندسية
تميزت منطقة جازان منذ زمن بعيد بثرائها وتنوعها وتباين تضاريسها الطبيعية؛ مما نتج منه تنوع في النمط العمراني والشكل الهندسي السائد في المنطقة بحسب ما تفرضه ظروف كل موقع وما تتوافر فيه من إمكانات وموارد طبيعية انعكست على الشكل والنمط العمراني السائد بها فعرفت سهول تهامة جازان ومناطقها الساحلية نمطا عمرانيا فريدا اعتمده الأهالي منذ مئات السنين يتخذ من الطبيعة والمواد البسيطة المتوافرة فيها مواد أساسية لبناء منازلهم بطريقة تنفرد بها عن جميع مناطق المملكة فيما يعرف باسم "العشة" ذلك البناء الفني البديع. ويعتمد الأهالي في المنطقة في بناء هذه المساكن على أنواع عديدة من الأشجار المتوافرة، ومنها شجر الأراك والأثل والشورى "المانجروف" والمض والمرخ والحلفاء والثمام وجميعها معروف لدى سكان المنطقة، وتقام العشة التي كانت سائدة في السنوات الماضية التي شهدت تطورا متزايدا في الأنماط المعمارية الحديثة على مساحة يصل طول قطرها غالبا إلى أكثر من ستة أمتار.
ويراعى في بناء هذه الأكواخ الشعبية أن تكون على طراز هندسي مخروطي الشكل بما يتناسب مع مناخ المنطقة الحار والرطب؛ حتى يسمح بدخول أكبر قدر من الهواء ويضمن لها الصمود أمام العوامل الجوية والظروف المناخية القاسية لفترة طويلة ويقوم المتخصص في بناء العشش بوضع خط دائري على الأرض بحسب المساحة المحددة للمبنى وحفر العديد من الحفر على طول الخط فيما يعرف باسم العقيق مع مراعاة ترك فراغين بطول متر تقريبا لكل منهما ليكونا بمثابة بابين "كابتين" للعشة.
ويحدد موقع هذين البابين في ربع المساحة الإجمالية في أحد أجزاء المبنى؛ ولذلك تسمى المساحة الواقعة بين البابين بالربع الذي يخصص لعمليات الطبخ وإعداد القهوة وحفظ أدواتها، وبعد عملية الحفر يتم وضع الأخشاب في العقيق وتصف فيه بشكل متواز واحدة جوار الأخرى، وتربط الأخشاب فيما بينها بواسطة أخشاب ذات حجم صغير وسهلة الثني تسمى "الحرائج" وحبال مصنوعة من السعف مع مراعاة وضع مسافة ربع متر على أقل تقدير باتجاه رأسي بين الحريجة والأخرى، وبذلك يكون قد تم بناء ما يعرف بالقامة من العشة وهو ما يزيد على قامة الإنسان المعتدل، ثم تبدأ المرحلة الثانية بوضع دائرة أخرى من العيدان الخشبية فوق الصف الدائري السابق "القامة" مع مراعاة تقريب الأطراف العلوية لهذه العيدان؛ حتى تلتقي في أعلى المبنى في منطقة تعرف بالقرو ليظهر بذلك الشكل المخروطي الكامل للعشة الجازانية، بعدها يتم وضع "القرعينة" وهى عبارة عن سارية يزيد طولها على المتر والنصف وبسمك مناسب ومهمتها تكمن في ربط جميع الحبال التي يتم من خلالها حفظ القش الذي يوضع على الجزء الخارجي من العشة بحيث تربط الحبال بشكل رأسي من أعلى إلى الأسفل، وبذلك يكون قد اكتمل الدور المناط بالرجل في هذا النوع من المساكن. واعتمد أبناء القطاع الجبلي في بنائهم وفنهم المعماري على تنوع التضاريس الجغرافية والحضارات المختلفة التي مرت بها المنطقة ليعتمدوا نموذجا وطرازا معماريا لبيوتهم التي يقطنونها لتقيمهم برد المرتفعات الجبيلة وتحمي ثمار أرضهم ومحصولاتهم الزراعية لفترات طويلة من العام.
والبيت الجبلي يجعلك تقف أمامه كثيرا متأملا جمال إبداعه وعلو حس وذائقة مصمميه؛ فهو عبارة عن حجارة من البيئة المحيطة بالمواطن في تلك المرتفعات وليس من المواد المستوردة أو المبتدعة يقوم صاحب البيت ومن حوله من أفراد قبيلته ببنائه بشكل رائع وذوق رفيع وفق هندسة معمارية تكاد تكون الوحيدة على مستوى الوطن، إن لم تكن على مستوى العالم من حيث الشكل والقوة والمتانة.
والبيت الجبلي بسيط في بنائه معقد في تفاصيله فلا يدخل في بنائه سوى الطين والأحجار والأخشاب شامخا بشموخ الوطن وأهله؛ فتراه واقفا على قمة جبل في طبقات عدة يصارع العوامل الجوية من أمطار ورياح وغيرها لمئات السنين ويشعر ساكنوه بالدفء والأمان وراحة البال والاستمتاع في المقام فيه.
وللبيت الجبلي مسميات عدة، منها المفتول أو الدارة ويتكون من أنواع عدة، منها الدارة وهو البيت المكون من طابق واحد والدارتان أي المكون ومن أنواع البيت الجبلي ما يعرف بالمشراح والعلي، وهما تقريبا النمط العمراني نفسه للمفتول، إلا أنه يزاد عليهما مساحة إضافة بارتفاع البناء وبعدد طبقاته من خلف البناء، دون أن تؤثر على شكله الأسطواني المعروف.
وإن كانت منطقة جازان قد عُرفت بجمال طبيعتها ووفرة مقوماتها وتميز أبنائها في الأدب والعلم والثقافة، فقد عرف أبناؤها ومنذ زمن طويل بحرصهم على التباري في بناء منازلهم على أعلى وأرقى المستويات بما يتفق وتضاريس المنطقة المتباينة.
وفي فرسان، حيث الجزر وثقافة اللؤلؤ والصيد والتجارة مع العالم الخارجي منذ قديم الزمن، حيث امتاز النمط العمراني بأصالته وجماله ودقة إبداعه بما عكس فنا جماليا خاصا جعل جزر فرسان تتميز عن سواها من محافظات منطقة جازان بنمط عمراني فريد، ولم يأت ذلك التميز والتفرد محض الصدفة، بل جاء نتيجة تواصل تام ورحلات تجارة دامت لسنوات طوال من قبل تجار الجزيرة، خاصة تجار اللؤلؤ والمرجان وعلاقة بيع وشراء مع تجار دول الخليج العربي وعدد من دول المشرق والمغرب؛ مما انعكس على النمط العمراني بالجزيرة، حيث تأثر التجار بما شاهدوه من أنماط عمرانية ومبان خاصة في بلاد الهند فعمدوا بدورهم لبناء مثل تلك المباني في جزر فرسان، كل وفق إمكاناته وقدراته المادية.
ويمثل النمط المعماري الفرساني معلما أثريا يبرز المهارة الفنية والمعمارية لأبناء الجزيرة، وشاهدا على جمال ورونق وبراعة أبناء الجزيرة في التصميم والبناء والتنفيذ وثراء تجار الجزيرة وارتفاع مستوياتهم المعيشية عندما كان اللؤلؤ هو التجارة الرائجة ومصدر الدخل الأساس، إلى جانب صيد الأسماك لسكان الجزيرة في حقب زمنية مضت.