التنميط والمعيرة للمصرفية الإسلامية لا يعنيان حمل الناس على رأي واحد

التنميط والمعيرة للمصرفية الإسلامية  لا يعنيان حمل الناس على رأي واحد

أكد الدكتور عبد الباري مشعل المدير العام لشركة رقابة في بريطانيا، أن المعيرة والحوكمة والتنميط من الأمور التي تشغل العاملين في صناعة المصرفية الإسلامية، مشيرا إلى أن الأزمة المالية العالمية وتوسع مناشط الصناعة والطلب العالي عليها طرحت موضوع الحوكمة والتنميط بقوة على أهل الاختصاص الفني والشرعي في المالية الإسلامية، جاء ذلك في حوار شامل تنشره مجلة ''المصرفية الإسلامية'' في عددها المقبل. وقال مشعل إن التنميط معناه العمل وفق أنماط ومعايير محددة وواضحة، وأن يتم العمل وفقا لمعيار واحد وبالطريقة نفسها، فالتنميط هدف الجميع، وكلما يصدر معيار من ''أيوفي'' ـــ هيئة المراجعة والمحاسبة المالية الإسلامية ـــ تتم الإشادة به، و''أيوفي'' تتغنى بين فترة وأخرى بإصدار مجموعة من المعايير الجديدة، وتتغنى في كل مؤتمر من مؤتمراتها بعدد الدول التي التزمت بهذه المعايير، أو على الأقل وجهت سلطاتها الإشرافية بأن تتبع المؤسسات المالية معايير ''أيوفي'' كإرشادات. وأوضح مشعل أن ''أيوفي'' تبذل جهدا كبيرا لدى البنوك المركزية لتقر معاييرها بهدف التنميط. فماليزيا فيها هيئة عليا وفيها هيئات في البنوك، وكذا في السودان وسورية. الهيئة العليا في أغلبية هذه التطبيقات أقرت معايير أيوفي كمصدر أساسي. وواقع التطبيق في هذه الدول الثلاث أن الهيئة العليا تصدر تعليمات للبنوك التي فيها هيئات شرعية، هذه التعليمات لا يجوز للبنوك مخالفتها، معنى ذلك إذن أن ما صدر من الهيئة الشرعية العليا تعمل به المؤسسات كلها دون تغيير أو تعديل، وبالتالي يصبح لدينا نمط للتطبيق أو أنماط تشبه بعضها بعضاً، لأنها جميعاً تعمل بالاستناد إلى التعليمات أو المرجعية نفسها. يبقى الاختلاف بين التطبيقات في الفجوة التي لم تغطها الهيئة العليا بإصداراتها من الفتاوى أو المعايير الشرعية التي تغطيها الهيئة الخاصة هذه الفجوة سيستمر فيها اختلاف التطبيقات طبقا لرأي الهيئة الخاصة، الذي من الممكن أن يختلف من مؤسسة إلى أخرى على مستوى الصناعة أو على مستوى الدولة الواحدة، مع مراعاة أن الفجوة من شأنها أن تضيق باتساع إصدارات الهيئة العليا من المعايير والفتاوى. وبين مشعل أن هناك اتفاقا إذن ولا يختلف عليه اثنان، وهو أن نعمل بمعايير موحدة تمثل مرجعية لجميع التطبيقات في الدولة الواحدة على الأقل، ومعنى ذلك أن نمتلك نموذجا للحديث عنه قابلا للتسويق والبيع، فإذا أرادت روسيا أو أمريكا نموذجا، فهذا هو النموذج كما يباع نموذج ''تشيس مانهاتن'' كنموذج عالمي لبنك تجاري تقليدي؛ فإنه يصبح لدينا نموذج عالمي لبنك تجاري إسلامي جاهز بكل أنماطه وتطبيقاته وتشريعاته وإجراءاته ويكون قابلا للبيع. الأمر هذا غير موجود عندنا الآن بسبب غياب التنميط. وأشار مشعل إلى أن ''أيوفي'' سارت خطوة إضافية في التنميط، حيث أنشأت لجنة للعقود النمطية في داخل ''أيوفي''، وهي لجنة تصديق العقود، ووجهت طلباً للمؤسسات المالية الإسلامية أن ترسل عقودها الخاصة بالمنتجات لتصادق ''أيوفي'' على مطابقتها معايير ''أيوفي''، معنى ذلك أن عقود المؤسسات في العالم كله إذا صادقت عليها ''أيوفي'' ستكون أنماطا متشابهة، لأنها تنطلق من معيار واحد ومرجعية واحدة وهي معايير ''أيوفي''، إذن ''أيوفي'' من خلال معاييرها ومن خلال لجنة تصديق العقود تدفع باتجاه تنميط جميع التطبيقات في الصناعة، الآن التنميط معناه أن يعمل الجميع بمعايير، وبالتالي تصبح تطبيقاتهم منمطة. وقال مشعل إن الواقع يوضح أن التنميط مسألة إيجابية، في أوروبا من أبرز العقود النمطية عقود إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية طبقاً لمشروع مارشال، وهي عقود المقاولات والمناقصات وهي من أعقد العقود فقد تم تنميطها فملزمة العقود والشروط الخاصة بالمقاولة والمناقصة أصبحت محددة طبقاً لأنماط معروفة. وبين مشعل أنه في الصناعة المالية الإسلامية أحدث وأكبر وأهم منتج فيها منمط وهو الصكوك، فهناك ملزمة كاملة من خلال هيكل مكون من صفحة أو صفحتين ثم مئات الصفحات لعدة عقود مثل عقد الإجارة أو المضاربة أو المشاركة .. لماذا؟ لأنها نشأت من أناس مهنيين هناك لا يؤمنون بالعشوائية الطاغية على أعمالنا، بالتالي أصبحت هيكلة الصكوك وإنشاء عقودها أسهل من إنشاء منتج مرابحة لتمويل الأفراد في البنوك. وشتان في القيمة المالية والأهمية والأولوية بين المنتجين. وحول الفرق بين التنميط وتوحيد الآراء؟ قال مشعل التنميط هو تحويل الأحكام الشرعية إلى معايير أو إلى قانون كما هو موجود، ولا يعني توحيد الآراء ولا يعني حمل الناس على رأي واحد، فالتنميط جعل جميع الآراء المعتبرة مضمنة في المعيار نفسه، وليس اختيار رأي منها أو ترجيحه، بعد ذلك يجوز لولي الأمر أن يلزم بالعمل بأحدها أو يسمح بالعمل بالرأيين، مثلا معيار ''أيوفي'' للمرابحة للواعد بالشراء تضمن المرابحة بالوعد الملزم والمرابحة بالوعد غير الملزم، مع أن الذين يقولون بالوعد غير الملزم يرون أن الوعد الملزم حرام ومع ذلك تضمنهما معيار واحد، أيضا تضمن معيار ''أيوفي'' في الإجارة المنتهية بالتمليك، التمليك على أساس الوعد بالبيع أو الوعد بالهبة، وتضمن التمليك بسعر رمزي مع أن هذا لم يرد في قرار المجمع، فهم رأوا أن التملك بسعر رمزي ضمن الآراء المعتبرة وأنها نمط قابل للتطبيق، إضافة إلى الأنماط الأخرى، وبالتالي فإن التنميط لا يعني توحيد الرأي وإنما يعني توحيد المرجعية أي جعل جميع الآراء المعتبرة شرعاً ضمن المرجعية، ولولي الأمر أن يلزم بأحدها أو يجعل الأمر متاحا لاختيار المؤسسات مع الإفصاح عن النمط الذي تستخدمه. وبخصوص ما يترتب على العمل بالتنميط الذي هو يعني العمل بمعايير موحدة؟ قال مشعل أنه يترتب عليه توحيد المرجعية ومعناه تغيير عمل هيئات الرقابة الخاصة على مستوى المؤسسات المالية الإسلامية، وهذا التغيير سيحدث في مهمة الفتوى، وفحوى التغيير ستكون في التوصيف الفني والأصولي والفقهي لمهمة الفتوى التي تعد من وظائف هيئات الرقابة الشرعية الخاصة. فالفتوى هي إصدار الحكم الشرعي الاجتهادي في المسألة المعروضة، وبآلية الاجتهاد الجماعي المتمثل في ضرورة الموافقة على الحكم من كل أو الأغلبية من أعضاء الهيئة. الآن إذا كان هذا الحكم الشرعي الاجتهادي في المسألة المعروضة قد أصبح في المعيار، وإذا كان هذا الحكم محصلة اجتهاد جماعي من الهيئة الشرعية العليا التي يفترض أن تكون أكثر عدداً من الهيئة الخاصة في كل بنك؛ فما الدور الذي ستمارسه الهيئة الشرعية الخاصة على مستوى كل بنك أو مؤسسة عندما يقول لها البنك المركزي وهو السلطة الإشرافية التي تخضع لها البنوك الإسلامية: إن هذا المعيار الشرعي المعتمد من الهيئة الشرعية العليا ملزم ولا يجوز للبنك الإسلامي مخالفته، فما دور الهيئة الشرعية الخاصة على مستوى البنك؟ هل ستبقى تمارس مهمة الفتوى الخاصة على مستوى البنك؟ واقع الحال أنه لن يمكن للهيئة الخاصة ممارسة دور الفتوى بمعناها السابق نفسه وهو إنشاء الحكم، أو مخالفة الحكم الذي صدر من الهيئة الشرعية العليا، وإنما كما سبق أن ذكرت سيتغير التوصيف الفني والفقهي والأصولي للفتوى الخاصة لتعني تفسير الحكم الصادر في المعايير المعتمدة من الهيئة الشرعية العليا وإسقاطه على الوقائع. وهو دور مشابه يصبح لدور المستشار القانوني الذي يفسر القانون، ومن المتصور أن تتحول طبيعة العمل في الهيئة الخاصة من أعضاء تتخصص في الفتوى إلى أعضاء أو مستشارين يتخصصون في تفسير الحكم الشرعي أو الفتوى الشرعية الموحدة في المعيار وإسقاطها على واقع المعاملات المراد تنفيذها في البنك أو المؤسسة، وهناك فرق كبير بين إنشاء الحكم وتفسيره؛ لأن التفسير سيحدث أثرا تطبيقياً وعمليا متشابها على مستوى المنتجات، وسيحقق هدف التنميط على مستوى التطبيقات لأن كل التفسيرات ستصل بالجميع إلى النتيجة نفسها. وأشار مشعل إلى أن التنميط سيحدث أثرا عملياً على صعيد الهيئات الشرعية وهو تغيير في وضعية الفتوى أو التوصيف الفني والفقهي الأصولي للفتوى .. وقد سبق أن أشرت إلى ضرورة تفعيل التدقيق الشرعي الخارجي ودعم استقلاليته ومهنيته من خلال تفويضه مكاتب تدقيق شرعي خارجي ضمن إطار تشريعي ومهني متكامل، والآن رأينا أن العمل على توحيد المرجعية ـــ وهو هدف الجميع له ـــ أثر غير مدرك من جميع من يطالب به ـــ مع أن الجميع يطالب به ـــ والأثر في هذه المرة سيكون على وظيفة الفتوى كما أوضحنا. وهو أن الهيئة الشرعية لن تقوم بالفتوى المعهودة، وإنما ستقوم بتفسير المعيار فيصبح عملها شبيها بعمل المستشار القانوني الذي يفسر القانون. هذا الأمر طالبت به سورية في المؤتمر الرابع من خلال حاكم مصرف سورية المركزي عندما قال إن السلطة الإشرافية تعمل على توحيد المرجعية الشرعية للعمل المصرفي الإسلامي، والواقع أن هناك جهدا كبيرا في مصرف سورية لاستكمال هذه المرجعية من خلال التعليمات المعتمدة من الهيئة الاستشارية العليا في البنك المركزي، التي تصدر للبنوك ويطلب من الهيئات الشرعية ألا تخالفها، فإذا استمر العمل بهذه الطريقة فستكتمل في سورية المرجعية الموحدة، وسيكون عمل الهيئة الخاصة على مستوى كل بنك كله تفسيرا للمعيار وليس إنشاء للمعيار أو الحكم الذي في المعيار، وبالتالي تصبح معاملات المؤسسات المالية الإسلامية أنماطاً متشابهة تعكس ما يتضمنه المعيار من أنماط محددة.
إنشرها

أضف تعليق