مستقبل المصرفية الإسلامية.. بين الإنجازات التاريخية والتحديات الاستراتيجية
لا شك أن المصارف الإسلامية حققت كثيراً من المكتسبات منذ ظهورها في بداية السبعينيات، وقد ظهرت للعالم تلك الإنجازات إبان الأزمة المالية العالمية التي لا نزال نعيش آثارها. فمن حيث الحجم والتفوق في النمو الكمي، تشير آخر الإحصاءات إلى أن نسبة النمو في الأصول للمصارف التقليدية خلال عام 2010م بلغت 6.08 في المئة بينما بلغت نسبة النمو في المصارف الإسلامية 28.6 في المئة، ومن حيث النمو في عدد المصارف الإسلامية العاملة فقد قفزت من 3 مصارف في بداية سبعينيات القرن المنصرم إلى نحو 450 مصرفاً إسلامياً تتوزع في أكثر من 75 دولة على مستوى العالم، يقع 40 في المئة منها في الدول العربية. وأما من ناحية حجم الأصول فيقدر أنها قاربت الوصول إلى 900 مليار دولار أمريكي بنسبة نمو سنوية راوحت بين 17 و30 في المئة، واستحوذت دول الخليج العربي على 234 مليار دولار من هذه الأصول، أي ما نسبته 26 في المئة من إجمالي حجم أصول المصارف الإسلامية في العالم.
وعموماً يمكن القول إن المصارف الإسلامية تتقدم بشكل كبير في الجوانب الكمية من حيث عددها وانتشارها وحجم أصولها، إلا أنها أخذت منذ بداية العقد الأول من الألفية الثالثة تواجه كثيرا من الانتقادات من مختلف الفئات سواءً منها فئة المنظرين الأكاديميين أو فئة كبار رواد المصرفية الإسلامية من رجال الأعمال أو مختلف فئات المتعاملين من جمهور المستهلكين والمستثمرين، وذلك من حيث أصالة المنتجات المصرفية الإسلامية، والأدوار التنموية والاجتماعية للبنوك الإسلامية، وتكاليف المعاملات والمنتجات في هذه البنوك. وهذه الانتقادات الواسعة إنما ظهرت بسبب مواجهة قطاع البنوك الإسلامية عديدا من التحديات، وسنحاول في اقتضاب مناقشة بعض التحديات التي تواجه البنوك الإسلامية وما يترتب على ذلك من واجبات ومهام يجب أن تضطلع بها، وذلك سيتم من خلال عدة محاور:
المحور الأول: دور البنوك المركزية في دعم المصارف الإسلامية
تتحدد معالم العلاقة بين البنك المركزي والمصارف الإسلامية من خلال أدوات السياسة النقدية المطبقة على البنوك التقليدية، وتتمحور السياسة النقدية في الاقتصاد الوضعي على الإقراض والاقتراض وإصدار النقود المصرفية، وهذه تنفذ عن طريق سعر الفائدة «الربا» المحرم شرعاً، وهي مرفوضة أصلاً في المصارف الإسلامية، وبالتالي فهناك مشكلة واضحة في التعامل مع البنوك المركزية. فالمصارف الإسلامية لم تجد حتى الآن من يقدم لها المعونة المطلوبة لتنشيط السوق الائتمانية في حالات الضيق المالي على أسس تتوافق مع الشريعة الإسلامية. وقد أسهم في عدم إيجاد حل لهذه المشكلة عدم تعرض أي من المصارف الإسلامية حتى الآن لمشكلة نقص السيولة، وذلك لتدفق الودائع عليها، ولكن هذا لا يعني أن ندفن رؤوسنا تحت الرمال، فلا بد من إيجاد بدائل قابلة للتطبيق تصلح لأداء المقصود من وظيفة البنك المركزي في هذا الشأن، فلا بد لأصحاب القرار في البنوك المركزية من مراجعة طبيعة العلاقة مع المصارف الإسلامية وتقييمها. وقد طرح كل من الأستاذ أحمد السعد، والدكتور محمد وجيه الحنيني عدة بدائل لحل مشكلة السيولة لدى البنوك الإسلامية، مثل توفير السيولة في إطار صيغ المضاربة والقرض الحسن، وإنشاء صندوق تعاوني بين المصارف الإسلامية. كما ذكرت الدكتورة هناء الحنيطي أن تنشيط وإيجاد سوق مالية ما بين البنوك الإسلامية، وإيجاد أدوات ائتمانية تتماشى مع الشريعة الإسلامية سيساهم في حل تلك المشكلة.
المحور الثاني: دور الرقابة الشرعية
من الانتقادات التي توجه للبنوك الإسلامية محاولتها مجاراة البنوك التجارية، وذلك بتبني منتجات تلك البنوك ومحاولة إلباسها اللباس الشرعي، حيث تستغل بعض البنوك الإسلامية التضارب وعدم الاتفاق بين العلماء حول بعض القضايا الفقهية، لإنتاج بعض المعاملات والمنتجات التي تثير شكوك المتعاملين مع تلك البنوك.
وكي نحافظ على خصوصية المصرف الإسلامي، لا بد من تفعيل دور الرقابة الشرعية، ولعله من المهم الاستماع إلى الآراء التي أطلقت منذ نحو عقد من الزمن بخصوص ضرورة وجود الرقابة الشرعية المركزية من قبل البنوك المركزية.
وقد أوضح الدكتور حمزة حماد ضرورة وجود فريق عمل مزدوج في هيئة الفتوى يجمع المختصين في المعاملات الشرعية والمختصين في النواحي المصرفية، ولا بد من وضع مخطط تفصيلي لمهام عمل هيئة الفتوى وعدم اقتصار المهام على صورة سؤال وجواب، وضرورة السعي الجاد إلى استمرار وتتابع انعقاد المؤتمرات والندوات واللقاءات بين هيئات الفتوى في البنوك الإسلامية المختلفة للارتقاء بالعمل المصرفي الإسلامي ومناقشة المشكلات والتحديات، وإيجاد سبل لحلها، وضرورة السعي إلى نشر أعمال الرقابة الشرعية تنويراً للرأي العام المسلم في هذه المجالات، وضرورة السعي إلى إصدار موسوعة اقتصادية عصرية شاملة تضم كل ما تحتاج إليه المصارف الإسلامية من أحكام شرعية لتكون مرجعاً للمصارف الإسلامية، وضرورة الاهتمام بأقسام البحوث الشرعية في المصارف الإسلامية لتؤدي دورها في البحث والدراسة ولتقيم جسوراً من التعاون مع الباحثين في مجال المصرفية الإسلامية، وضرورة إيجاد آلية معينة لتقريب وجهات النظر وتخفيف الخلاف قدر الإمكان.
المحور الثالث: دور المصرف الإسلامي في تحقيق الرفاه (المسئولية الاجتماعية)
إن المصارف الإسلامية حتى الآن لم تضطلع بدورها من حيث منتجاتها وأدواتها وأنشطتها الاقتصادية في تنمية المجتمع المسلم على الوجه الأكمل، فقد أدى تركيز اهتمام القائمين على تلك المصارف على مبدأ تحقيق الربح السريع في الأجل القصير إلى إغفال هذا الدور المهم للمصرف الإسلامي، الذي يحقق لها الاستقرار والأرباح العظيمة في الأجل الطويل. وعليه فإنه ينبغي أن تسعى البنوك الإسلامية انطلاقاً من وحي رسالتها الإيمانية إلى المساهمة في مشاريع تنمية اقتصادية قد لا تكون تعظم الأرباح في الأجل القصير كمشاريع السكك الحديدية، وكذلك لا بد أن تتبنى البنوك برامج اجتماعية تعاونية، إما بالإقراض المجاني وإما المقطوع المطلق أو كليهما.
المحور الرابع: التعاملات الآجلة
فيما عدا صيغة المرابحة التي صبغت معظم معاملات البنوك الإسلامية، فهناك قصور كبير في عرض تشكيلة من أنواع التعاملات الآجلة في البنوك الإسلامية، التي عجزت عن تطوير عديد من منتجاتها، لعدم وضع موارد كافية لتطوير واستهداف منتجات بديلة وموازية للمنتجات التقليدية التي تقوم على أساس نظام الفائدة «الربا» المحرم شرعاً، إلا أن تلك التعاملات الآجلة أحياناً ضرورية لأن عدم الاستفادة منها يعرض البنك الإسلامي إلى جملة من الآثار السلبية مثل تعرضه لمخاطر الاحتفاظ بنسب سيولة عالية لمواجهة العجز المالي، وعدم دخوله في مشروعات متوسطة أو طويلة الأجل، وهذه تقلل من العوائد والأرباح المتوقعة. وهذا القصور يؤدي إلى فقدان تلك البنوك بعض عوامل الجذب التي تحتاج إليها للقيام بدورها على الوجه الأكمل.
ويرى الدكتور محمد البلتاجي عدم إمكانية الاسترشاد بمؤشر سعر الفائدة في المصارف الإسلامية، وضرورة وجود أكثر من مؤشر لتحديد ربحية التمويل في المصارف الإسلامية، وضرورة وجود قاعدة بيانات مالية عن القطاعات الاقتصادية المختلفة، وتطبيق أنظمة التكاليف في المصارف الإسلامية لتحديد تكلفة العمليات التمويلية والخدمات المصرفية، وإعداد قاعدة للبيانات والمعلومات عن المصارف الإسلامية، واستخراج مؤشرات مالية وإحصائية عن الصناعة المالية الإسلامية.
المحور الخامس: تنمية الموارد البشرية
أثبت عدد من الدراسات قصور المصارف الإسلامية في جانب تنمية الموارد البشرية، سواء من الناحية الكمية بسبب النمو المتزايد لتلك المصارف أو من الناحية النوعية بسبب عدم ملاءمة الموارد البشرية المتاحة حالياً للعمل المطلوب. ومن الانتقادات التي وجهت للمصارف الإسلامية قصورها في تخطيط احتياجاتها من الموارد البشرية، وعدم وجود معايير واضحة وموضوعية للاختيار والتعيين، وعدم تطوير برامج تدريب تلائم التحديات التي تواجه تلك المصارف، وإهمال نظم تقييم أداء العاملين، حيث توضح بعض تجارب المصارف الإسلامية عدم وجود حراك وظيفي للعاملين، في الوقت الذي يتم فيه التجديد لمن بلغوا سن المعاش، وبالتأكيد فإن ذلك يؤثر سلباً في تحفيز العاملين وولائهم لمؤسساتهم.
ومن المأمول أن تقوم المصارف الإسلامية بتدارك ذلك، بوضع معايير مهنية وشرعية تضمن حسن اختيار الكوادر والكفاءات البشرية، وأن تهتم بجانب تقييم أداء العاملين وفقاً لمعايير واضحة، وأن يتم إبلاغ العاملين بنتائج التقييم الدورية، وأن ترتبط إجراءات الترقية والحوافز بنتائج تقييم الأداء، وأن تتم عمليات مراجعة دورية للسلم الراتبي، مما سيسهم في خلق دوافع إيجابية نحو العمل لدى العاملين.
ولا بد من الاهتمام بجانب التدريب والتخطيط له، بحيث يتم إعداد برامج تدريبية ودورات تأهيلية فيما يتعلق بتأصيل العمل المصرفي الإسلامي وتعميقه، وكذلك على الصعيد التقني بما يتناسب مع عملية التحديث والتطوير وتحسين إجراءات الرقابة المالية ورفع درجة الثقة فيها، بما يسمح للكوادر العاملة في مجال المصرفية الإسلامية بامتلاك القدرة على الأداء ومعالجة القصور، ومواكبة متطلبات العمل وتقنياته المستخدمة التي تتطور باستمرار.
وعلى المصارف الإسلامية الاستعانة بأصحاب الاختصاص في مجال تنمية الموارد البشرية وعدم الاعتماد على الهيئات الشرعية وحدها في تطوير نظام الموارد البشرية.
المحور السادس: النظم والقوانين
رغم أن بعض الدول الإسلامية مثل (باكستان والسودان) حاولت تحويل أنظمتها المصرفية بالكامل إلى نظام إسلامي بحت، كما وضعت بعض الدول أنظمة مستقلة وكاملة خاصة بالمصرفية الإسلامية مثل (ماليزيا والبحرين) إلا أن عامة السلطات الرقابية والتنفيذية في الدول التي تعمل فيها البنوك الإسلامية، ما زالت تلزمها بالمعايير والضوابط المالية التي تطبقها على البنوك التقليدية، وخضوع المؤسسات المالية الإسلامية لمعايير وضوابط لا تتفق مع طبيعة عملها يعد تحدياً كبيراً يواجه تلك المؤسسات.
ولمواجهة هذا التحدي وإلى أن تتجه البنوك المركزية نحو حوكمة البنوك الإسلامية، ينبغي أن تتضاعف جهود القائمين على أمر البنوك الإسلامية والمؤسسات الدولية الداعمة لها لتطوير المؤسسات والقوانين لممارسة العمل المصرفي الإسلامي، وتنظيم الصناعة المصرفية والإشراف عليها وضمان سلامة نظام التمويل وتحسين سياسة الرقابة المصرفية وتطوير مؤسسة الرقابة الشرعية. وحيث قام خلال العقدين المنصرمين عديد من الجهود في هذا المجال مثل تأسيس المجلس العام للبنوك الإسلامية ومجلس الخدمات المالية الإسلامية وغيرها، فإن المأمول أن تتضاعف هذه الجهود الذاتية غير الحكومية من داخل القطاع المصرفي الإسلامي وخارجه.