الحقيبة الدبلوماسية في مهب الريح

أمريكا، الحقيقة، والإنترنت، شكلت جميعا أضلاع مثلث الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس، حيث لم يضع الأسترالي، جوليان أسانج، يده في عش الدبابير فقط؛ بل فتح أيضا حقيبة الدبلوماسية لتتناثر منها أكثر من ربع مليون وثيقة عصفت بالعمل الدبلوماسي، وإجراءات حماية الوثائق السرية، واستدعت الولايات المتحدة قوانين من حقبة الحرب العالمية الأولى.
ليس جديدا أن تكون هناك أسرار في العمل الدبلوماسي؛ ولذلك كفلت، على سبيل المثال، اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961) سرية المراسلات الدبلوماسية، حيث تدور المناقشات ثم تليها المحاضر والتقارير والتحليلات وربما الانطباعات، تدور أحيانا في فلك الحقيقة، وتبتعد أحيانا عن منطق المعقول، وفي الحالتين تبقى هناك مصالح مشتركة ومسيرة يجب أن تستمر صدقا أو كذبا. المشكلة تكمن عندما يصبح جوهر العمل الدبلوماسي ومقدماته ونتائجه متاحة للجميع دون استثناء، تماماً كما حدث في نشر هذه الوثائق.
لا شك أن نشر الوثائق وضع دبلوماسية الولايات المتحدة في حرج لأسباب كثيرة، منها أن هناك من تجرأ على هتك سرية مراسلاتها ومواقف الدبلوماسية الأمريكية من واقع وثائق وليس تسريبات أو استنتاجات، ثم إن الوقائع تشمل أشخاصا وأحداثا ما زالت حاضرة في المشهد الدولي، ولذا لن تخلو التبعيات من تغييرات على مستوى السفراء أو حتى بعض أعضاء السلك الدبلوماسي، وقد أشارت بعض الصحف الأمريكية لذلك؛ ضمانا لإزالة الحاجز النفسي، على الأقل، بسبب تناول بعض الوثائق لشخصيات سياسيين أجانب.
لكن هذه الضارة ربما تكون نافعة للولايات المتحدة وغيرها من الدول حيال بعض المواقف، بمعنى أنها لن تكون في كل الحالات شرا محضا. بالنسبة للولايات المتحدة ربما يُحلحل نشر الوثائق بعض المواقف، ويضع التصورات على طاولة النقاش بدلا من محاولة تفسيرها في برقيات سرية. هامش المناورة لم يعد متاحا في بعض القضايا، وقد تجلت خفايا الانطباعات على صفحات ''ويكيليكس''.
عندما أقدم جوليان، مؤسس موقع ويكيليكس الإلكتروني على هذه الخطوة؛ فإنه لم يخط وحيدا تجاه هذه المغامرة؛ وإنما اتفق مع عدد من المؤسسات الصحافية الكبرى على إعطائها حق النشر أيضا، ومنها صحيفة ''نيويورك تايمز'' الأمريكية. وهو ما أثار جدلا قانونيا حول مسؤولية هذه الصحف في حال اتخاذ إجراءات قانونية تجاه جوليان. وزارة العدل الأمريكية فتحت تحقيقا جنائيا في الموضوع، وهناك مواطن أمريكي رهن التحقيق، ويدور حديث حول مد ذراع المساءلة الجنائية لتطول جوليان؛ إما بتهمة الجاسوسية أو المتاجرة بممتلكات مسروقة، ولن يتوقف الجدل القانوني حيال ذلك؛ بل قد يؤدي لمراجعة التشريعات القائمة وسن تشريعات جديدة؛ لتلافي حدوث ذلك مستقبلا. من الغريب أن يتصادف اتهام جوليان في السويد مع نشر الوثائق، ولكن لا أظن أنه سيلقى محاكمة جنائية على نشر هذه الوثائق، وإن حدث ذلك فستكون قضية تاريخية بامتياز، ومقررا جديدا في كليات الحقوق.
ربما ''تُعيّر'' الدبلوماسية الأمريكية بأن وثائقها تسربت أو سربت إلى مواقع الإنترنت، وأن بعض منسوبي سلكها الدبلوماسي يشخصون المواقف ويخلطون بين التحليلات والانطباعات. لكن في المقابل، هناك سياسة خارجية لإدارة أمريكية أقصى مدة لبقاء هذه الإدارة ست سنوات تقريبا من الآن، ثم ستأتي إدارة جديدة. بالتأكيد أن هناك مواقف أمريكية لا تتغير بتغير الإدارات المتعاقبة، إلا أن الأيام ستطوي صفحة الملف؛ حيث لن تطيل الدبلوماسية الأمريكية البكاء على اللبن المسكوب جراء نشر هذه الوثائق، بل ستعمل بواقعية على تجاوز آثاره، وربما نقرأ في مذكرات الرئيس أوباما أو وزيرة خارجيته فصولا مشوقة عن قصة حقيبة دبلوماسية ثقبتها الحقيقة أو ثقبت هي الحقيقة. أخيرا، نشر موقع ويكيليكس وثائق الدبلوماسية الأمريكية عن العالم، ولكن ماذا لو كان العكس أي قرأت أمريكا وثائق الدبلوماسية العالمية عنها على صفحة ''ويكيليكس''؟ سؤال افتراضي بالطبع!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي