بعد التوافق العراقي وانتخابات الكونجرس.. إسرائيل وإيران المستفيد الأكبر!!

لا يكفي أن نعرف ما حصل في أربيل، وكيف تمت المبادرة الكردية، وأين كانت الضغوط الأمريكية، وكيف بدأت التفاهمات وأين كانت التنازلات، لكن يهمنا أن نعرف كيف تدار الأمور في العراق وكيف تتحرك القوى السياسية فيه، وعندما تضعف قدراتها على تحقيق مصالحها، وكيف تستنجد هذه القوى بلاعبين كبار يحكمون العراق بالريموت كنترول، في أربيل عرفنا كيف صيغت مبادرة مسعود البرزاني وكيف التقى البرزاني في منزله في بغداد عددا من القيادات العراقية والتقى آخرين في أربيل، وكيف التقى برزاني أيضا بالسفير الإيراني والسفير الأمريكي والتركي، وكيف كان نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن حاضرا مرة بالزيارات المكوكية ومرة عبر الهاتف ومرة أخرى عبر الدائرة التلفزيونية وبطلب رسمي منه، واطلعنا على طريقة عمل الأمريكان في تقديم تصورات لجميع الفرقاء، وتشجيعهم على تقاسم السلطة، وممارسة ضغوط ورفع غطاء عن آخرين، وكيف جرت فيما بعد التفاهمات بين السفير الأمريكي والإيراني في بغداد.
عندما قرر الأمريكان الخروج من العراق، كانوا على معرفة دقيقة أن إيران حاضرة بقوة في العراق، وعندما أرادت أن تكشف صورة وملامح هذا التأثير أصدرت تقارير أمنية عدة تؤكد أن إيران ابتلعت العراق وأن ليس بمقدورها إلا إقامة سلطات موازية لقوة التنظيمات الشيعية، فعملت على إنشاء ميليشيات الصحوة، وأسهمت وعبر أكثر من طرف للاتصال ببعض القوى العراقية المعارضة للمشاركة في العملية السياسية، وكان هناك دعم غير مسبوق من هذه القوى لكتلة الدكتور إياد علاوي، فبرز علاوي كقوة موازية، لكنها بالطبع أضعف من القوى الأخرى؛ كونها لا تمتلك ميليشيا وتنظيما خاصا بها، ولا تسيطر على منطقة جغرافية، ولا تمثل طائفة بعينها، وكانت سيطرتها على البرلمان مفاجأة لإيران ولقائمة دولة القانون وللأكراد أنفسهم، ولهذا عملت حكومة المالكي جل جهدها لمصادرة قوة ونفوذ قائمة علاوي، فادعت قيام عسكريين بمحاولات انقلاب تبين فيما بعد أنها قصة مفبركة، ولجأت إلى قانون الاجتثاث لحرمان قياديين كبار في قائمة العراقية ولم تنجح، وأعادت فرز أصوات العراقية ولم تتغير النتيجة، عندها شعرت إيران بأن ثمة تحولات تجري على الأرض، وأن العراقية ليست تنظيما، وإنما هي تعبير عن رفض شعبي واسع للطائفية ونظام المحاصصة والتوافق الديمقراطي المعمول به، وأن غياب قائمة دولة القانون عن الحكومة تعني بداية التحولات الكبيرة.
في هذا الإطار من صراع القوة على العراق ولدت من رحمه التفاهمات الأمريكية الإيرانية، وقد ثبت بعد الانتخابات العراقية مباشرة، وجود موافقة أمريكية على مساهمة إيران في تعزيز الأمن والاستقرار في أفغانستان وتدريب الشرطة الأفغانية، وقد اتضح عمليا وجود خط (هاي وي) بين الرئاسة الأفغانية وإيران، أكد ذلك تلقي الرئيس كرازاي مبالغ قدرت بملايين الدولارات، والرئيس الأفغاني قال لـ "سي إن إن" لقد أبلغت الرئيس الأمريكي بهذه الأموال وهي عبارة عن حقائب عديدة مليئة بالأموال، وقد اتهم عمر دودزاي كبير مساعدي الرئيس كرزاي أنه وراء تلقى الأموال، والملفت للانتباه أن يقدم رئيس الوزراء العراقي دعما لكرزاي وعبر طهران أيضا.
لكن على الجهة الأخرى وبحسب جريدة "التايمز" وعلى لسان مسؤول كبير في استخبارات الناتو قال هذا المسؤول (المخابرات الإيرانية تناور على الجهتين معا، فهي توفر الدعم المالي والأسلحة والتدريب لمسلحي حركة طالبان، وفي المقابل موَّلت الحملات الانتخابية لعدد من المرشحين الأفغان خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة)، وإذا نظرنا لهذه السياسة لوجدناها تنفّذ أيضا في بغداد دعما مباشرا واستراتيجيا للقوى الشيعية، ودعما غير مباشر لتنظيم القاعدة في العراق والقيام بتفجيرات مختلفة بهدف إدامة الفوضى في العراق، وفي اليمن أيضا، ناهيك عن فتح أبواب جحيم المخدرات على أوسع أبوابه في جنوب العراق.
وعليه يجب أن ندقق في تصريحات المسؤولين الأمريكان كثيرا، خاصة عندما أعلن ريتشارد هولبروك المبعوث الأمريكي إلى كل من أفغانستان وباكستان، في مؤتمر صحافي في العاصمة الإيطالية روما، أن بلاده لا تعترض إطلاقا على أن تحضر إيران اجتماع مجموعة الاتصال الدولية الخاصة بأفغانستان، بحجة أن إيران، بحدودها الطويلة والمفتوحة تقريبا مع أفغانستان وبمشكلتها الكبيرة مع المخدرات، "تملك دورا في حل أزمة أفغانستان سلميا". وهكذا، فجأة اكتشفت الولايات المتحدة أن لإيران دورها المهم في أفغانستان، وقبل ذلك اكتشفت دورها المهم في العراق! ثم ماذا بعد ذلك؟
ما بعد ذلك علينا أن نعترف بوجود نمط جديد من التلاعب السياسي والأمني الدولي الجديد، وهذا النمط يجب أن نفسر القضايا والأحداث وفقا لمعطياته الواقعية، فليس الاختلاف الفكري والسياسي والإيديولوجي والتقاطع الاستراتيجي، سبيلا لعدم التعاون في قضايا معينة بين الفرقاء وبين القوى المتصادمة، لا بل أحيانا تكون هذه المصادمات في حقيقتها بحثا عن تفاهمات سخية، فهناك تقارير أمنية تؤكد أن ثمة توافقا أمريكيا إيرانيا في العراق وفي أفغانستان، فعقلية البازار الإيرانية تؤمن بالمماطلات وبالمساومات والفرص والتوافقات والتفاهمات، وأيضا عقلية اقتصاد السوق والمشتقات المالية والسوق الحرة والمنفعة الدائمة تؤمن بأن كل شيء ممكن في السياسة لتحقيق الهدف؛ ولذلك لا نستغرب وجود تفاهم أمريكي - إيراني مسبق على تقاسم الصلاحيات في العراق وبقاء المالكي رئيسا للوزراء.
ضغوط كبيرة تعرضت لها العراقية، وتحولات كثيرة حدثت حدَّت من فرصها في تشكيل حكومة عراقية، ولعل أبرز هذه التحولات كانت في موقف مقتدى الصدر الذي أكد من إيران أنه ليس راغبا في دعم المالكي، لكنها الرغبة الإيرانية، وأيضا ضغطت إيران على المالكي لتقديم تنازلات للأكراد في سبيل البقاء في رئاسة الحكومة والهدف الاستراتيجي كما يرى الخبراء أن إيران تهدف إلى تكريس السلطة التنفيذية للقوى الشيعية، ناهيك عن عمليات التغيير الاستراتيجي الكبيرة التي تجريها إيران على الواقع العراقي، فالجنوب العراقي من بغداد إلى البصرة بات ليس بمقدوره التعامل دون معرفة اللغة الفارسية؛ كونها لغة باتت تزاحم العربية كلغة تعامل يومية، ناهيك عن الأمن والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية.
أمريكا لديها أسبابها المختلفة في التفاهم مع إيران في العراق كما يجري في أفغانستان وأيضا في تمكين المالكي من رئاسة الحكومة لاعتبارات عدة، ولعل الاعتبار الأول اعتبار اقتصادي؛ إذ إن القوات الأمريكية في العراق ما زالت تسيطر سيطرة فعلية على بعض الحقول النفطية الرئيسة وأن الحكومة العراقية ليس لديها أية معلومات حقيقية عن كمية النفط المصدرة للخارج، وقد طور الأمريكان القدرات التصديرية للعراق لتصل إلى ستة ملايين برميل، والاعتبار الآخر أن الأمريكان يملكون معلومات إدانة حقيقية عن حكومة المالكي وتورطها بقتل عدد كبير من المواطنين العراقيين، وأن الإدارة الأمريكية أبلغت المالكي وكادت أن تحرمه الغطاء السياسي فترة من الفترات، قبيل توقيع الاتفاقية الأمنية، كما أن إبقاء المالكي يفي بالأغراض السياسية الإيرانية في العراق، وفقا لسياسة الأمر الواقع؛ نظرا إلى حضور إيران المزعج في العراق وأفغانستان، ولبنان.
كما أن القائمة العراقية تعرضت لضغوط أمريكية؛ لأنها أولا وأخيرا يجب أن تستجيب للرؤى الأمريكية والخطة التي قدمها نائب الرئيس جو بايدن، وأيضا هناك رؤية قديمة ما زال بايدن على قناعة تامة بها وهو إضعاف قوة القوى كي تبقى دائما في حاجة إلى الدعم الخارجي، سواء كان أمريكيا أو إيرانيا، وهذا يفتح بوابة اتصال بين أمريكا وإيران عبر هذه الأدوات، ونلحظ أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد استسلم لرؤيتين، الأولى رؤية بايدن حول تقاسم السلطة ورؤية وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس الداعية للتعاطي الدبلوماسي مع إيران وعدم نجاعة الحل العسكري في الفترة الراهنة، رغم أن جيتس من مخلفات الإدارة الأمريكية السابقة.
وتضاعفت وتيرة الحراك والتفاهم الأمريكي الإيراني بعد الفشل الذريع الذي مني به الديمقراطيون في الانتخابات النصفية في الكونجرس الأمريكي، حيث عادت نغمة الجمهوريين بالدعوة لتعديل أولويات السياسة الخارجية الأمريكية بالإبقاء على الجانب الأمني والعسكري في قائمة أوليات السياسة الأمريكية، وهذا يعني الصدام في أفغانستان والعراق وإيران ولبنان وغزة، حيث يتضح ذلك من النغمة الإسرائيلية الجديدة بإعادة طرح إمكانية قيامها بضرب المنشآت والمفاعلات النووية الإيرانية بضمانة الكونجرس، دون الالتفات إلى الإدارة الأمريكية الذي سيتراجع دورها كثيرا في الشرق الأوسط، خاصة على الصعيد السلمي، والبوادر والمؤشرات واضحة حول تمني الإدارة الأمريكية الحالية على إسرائيل إيقاف الاستيطان لمدة ثلاثة أشهر، مقابل منح إسرائيل صفقة عسكرية تقدر بـ 20 طائرة حربية حديثة.
لذلك لا نستغرب كثيرا أن تكون إدارة أوباما قد مارست ضغوطا كبيرة على رئيس القائمة العراقية الدكتور إياد علاوي، مقابل تفاهمات أمريكية - إيرانية أهدافها البعيدة مساعدة الرئيس الأمريكي في سحب البساط من تحت أقدام الجمهوريين وضغوطهم، لكن على الجانب الآخر فإن زيارة الرئيس الأمريكي للهند والحديث عن علاقات استراتيجية معها، كان ذلك موجها لباكستان لضبط الحدود ومحاربة الإرهاب، وموجهة لمحاصرة القوة الصينية، فإنها ستدفع الصين نحو تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع إيران وبعض القوى في المنطقة، الأمر الذي سيدفع إيران للمضي قدما بملفها النووي، وسيدفعها أيضا إلى مزيد من التدخل والعبث الأمني في المنطقة، فيما ستتمتع إسرائيل بدعم غير مسبوق من الإدارة الأمريكية؛ كون إسرائيل قد ضمنت تحديدا دعما استثنائيا من الكونجرس؛ مما سيؤدي إلى تراجعها أو عدم موافقتها على أية التزامات أو تفاهمات مع الإدارة الأمريكية الحالية، وقد يدفعها ذلك وبدعم من الكونجرس إلى القيام بمغامرات عسكرية في لبنان، وربما في غزة وإيران.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي