مارك ديشام: التمويل الإسلامي.. مبادئه إيجابية وعليه مواجهـة إغـراء العزلـة
جمع بين العلم الأكاديمي والخبرات المهنية المتراكمة، وتنقل بين بلدان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، يعلم الكثير عن الثقافة الإسلامية، ويهتم بالفنون الإسلامية، قاد كثيرا من المبادرات التي أحدثت فوارق واضحة في بيئة الأعمال في موطنه بلجيكا. يعيش حياة مهنية مزدوجة ـــ على حد وصفه – يهتم في جزء منها باقتصادات الدول الإسلامية، وفي الجزء الآخر يتعامل مع حوكمة الشركات. ويعمل مستشارا في التمويل الإسلامي واقتصاديات الحلال للرئيس التنفيذي لوكالة والونيا للتجارة الخارجية والاستثمار (إحدى وكالات التنمية الحكومية البلجيكية)، كما يعمل رئيساً لمجلس إدارة شركة إيجزيجو ـــ وهي شركة متخصصة في استشارات حوكمة الشركات) تتخذ من بروكسل مقراً لها وتعمل في الأسواق الأوروبية الناطقة باللغة الفرنسية (فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ وسويسرا). وفي حياته الاجتماعية ـــ كما يصفها ـــ يعمل محاضرا غير متفرغ في جامعتي بروكسل ولياج البلجيكيتين حيث يدرس التمويل والحوكمة والاستراتيجيات.
حاورته “المصرفية الإسلامية” بشكل خاص في العاصمة البلجيكية بروكسل وجعلت محور لقاءها به حول التمويل الإسلامي كونه شخصا يمتلك وجهات نظر إيجابية عن التمويل الإسلامي ويمثل الحيادية في الطرح سواء في المدح أو النقد للنظريات والممارسات التي تتبناها الصناعة المالية الإسلامية على مستوى العالم.
باعتبارك بروفيسورا ورجل أعمال غربيا مسيحيا، ما الذي يجعلك مهتماً بالتمويل الإسلامي؟
- بوصفي رجل أعمال، زرت أكثر من خمسين دولة على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، ومن بينها أكثر من عشرين دولة إسلامية من المغرب حتى إندونيسيا. وأعطتني رحلات العمل هذه الفرصة لاكتشاف عودة ظهور التمويل الإسلامي قبل الغربيين الآخرين في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين. وبما أني أحد مؤسسي الجمعية الأوروبية لرأس المال المغامر، فقد كنت في موقع يؤهلني لفهم المبادئ الأساسية للتمويل الإسلامي فضلا عن تفاصيل منتجاته الفنية.
وقد جعلتني أهمية العالم الإسلامي (الذي يشكل نحو 25 في المائة من سكان العالم) وصناعة التمويل الإسلامي المتنامية (نحو مليار يورو) أدرك الإمكانات التجارية الضخمة للاقتصاد الإسلامي .. وقد قررت أن أستثمر بنفسي في هذا الحقل.
وباعتباري غربياً، أدركت على الفور أنه من الممكن تحويل هذا التمويل الأخلاقي إلى جسر يربط بين ثقافات المسلمين وغير المسلمين. وأنا على قناعة تامة أن التمويل الإسلامي وكذلك التمويل التقليدي سيستفيدان كثيرا من تطوير فهمهما المشترك وبناء الجسور بين هذين العالمين الماليين. لقد وصل التمويل الإسلامي إلى نقطة تحول في تطوره: فقد بلغ حجما كبيرا الآن ولكن عليه أن يتغلب على إغراء العزلة... العزلة التي ستزيد احتمالات تعرضه للخطر باعتباره لا يزال صناعة جديدة منغلقة تنمو بسرعة (كبيرة). وفي الوقت نفسه، قد يتعلم التمويل التقليدي الكثير من إحدى أفضل طرق التمويل رسوخا وأخلاقية في الوقت الذي أغرقه (أي التمويل التقليدي) بعض اللاعبين الماليين الجشعين بكميات هائلة من المنتجات السامة...
وبوصفي مسيحياً، أشعر بارتياح كبير للمبادئ الأساسية التي تستند إليها صناعة التمويل الإسلامي. وقبل بضع سنوات، كنت أتحدث مع عالم شريعة محترم، وبما أني كنت أعبر عن دهشتي حين أدركت أن معظم هذه المبادئ الإسلامية الأساسية هي المبادئ نفسها التي علمتها أطفالي، فسر لي الأمر قائلا: “لا عجب أن تشعر أنك قريب من هذه المبادئ الأخلاقية... فهي عالمية .. وما يختلف فقط هو ترجماتها الإقليمية .. بسبب اختلاف البيئات الثقافية”. ومنذ ذلك الحين، بدأت ألاحظ أني أملك ميزة كبيرة عند دراسة التمويل الإسلامي باعتباري غير مسلم: أفهم تلقائياً المبادئ الإسلامية الأساسية، إلا أن منتجاتها وممارساتها ليست “طبيعية” بالنسبة لي. وتبين أن هذه المسافة ميزة كبيرة بالنسبة لي عند العمل مع زملاء مسلمين: أستطيع بسهولة أكبر أن أطرح الأسئلة وبالتالي “أجدد” الحوار و”ألخصه”. وعلى العكس من ذلك، فإن معظم المنتجات والممارسات الإسلامية مألوفة جدا بالنسبة لبعض أصدقائي المسلمين، فهي تلقائية جداً و«طبيعية» جداً، بحيث لا يشككون فيها، وبالتالي ينسون إعادة النظر في المبادئ المذهلة التي رسختها.
من المعروف عنك أنك تواجه النظرة السلبية في الغرب حول التمويل الإسلامي على أنه تمويل يستند إلى “المحرمات” وذلك من خلال ترويجك له ـــ أي التمويل الإسلامي ـــ على أنه تمويل يستند إلى “مبادئ إيجابية”.. هل يمكنك شرح ذلك؟
- أنا منزعج قليلا في الواقع من هؤلاء، سواء مسلمين أو غير مسلمين، الذين يصورون التمويل الإسلامي باعتباره نظاماً مالياً قائماً على بعض “المحرمات”...
وباعتباري غير مسلم، فإن مثل هذه المحرمات غير “طبيعية” بالنسبة لي: لم أمارسها منذ الطفولة لذا أشعر أنها قيود. ومن أجل قبول هذه القيود، أعدت النظر في المحرمات الأساسية واكتشفت أنها في الواقع نتائج منطقية لمبادئ إيجابية للغاية. دعني أقدم لك بعض الأمثلة:
تحريم الربا هو مجرد نتيجة منطقية للمبدأ الإيجابي “فائدة المال”: حيث يجب ألا يكون المال هدفا بحد ذاته بل وسيلة يمكن استخدامها لتوليد القيمة المضافة، فمن المنطقي منع اللاعبين الاقتصاديين من كسب المال على المال.
وخاصة في الوقت الذي لم يكن فيه النظام المصرفي موجوداً وكان المرابون هم المقرضين الوحيدين، أمر الله الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ بحظر الربا من أجل منع استغلال الفقراء ولضمان أن يتم استثمار الأموال في المشاريع الاقتصادية التي ستولد القيمة المضافة الضرورية جداً لتطوير المجتمع الإسلامي الجديد في ذلك الوقت.
وهناك مثال آخر يأتي من تحريم الغرر، ونحن نعلم أن هناك عدة تعريفات لهذا المفهوم. وإذا أخذنا التعريفات الأوسع التي تعرّف “الغرر” بأنه “أي صفقة نتائجها غير معروفة” (وبالتالي قد تؤدي إلى عدم اليقين والخداع وميزات غير مستحقة أو حتى الغش)، يمكننا تفسير حظر الغرر باعتباره نتيجة منطقية للمبدأ الإيجابي “الاستحقاق”: لا يستحق المرء أن يكسب المال إذا لم يوجد القيمة المضافة المتوافقة معه. وبالمناسبة، إنه بالضبط المبدأ نفسه الذي طبقته في منع أطفالي من شراء بطاقات اليانصيب! فأنا أريد أن يفهموا أن عليهم أن يستحقوا ما يكسبونه وليس فقط انتظار الحظ الجيد.
مع هذا التفسير الإيجابي للتمويل الإسلامي، كيف تنظر إلى “التورق”, وهل تعتقد أنه يخدم صورة وروح التمويل الإسلامي؟
- باعتباري باحثاً غير مسلم، لا أريد أن أصدر حكماً قطعياً! كل ما يمكنني قوله هو أنني أشعر بالحيرة من الزيادة السريعة، على مدى السنوات القليلة الماضية، لكمية الأموال التي يتم التعامل بها بموجب التورق. فهذا النمو المفاجئ يشكك في “مبدأ الحقيقة” الذي يعتبر حجر زاوية آخر للتمويل الإسلامي: كل صفقة مالية يجب أن تخدم صفقة اقتصادية مقابلة. ثم يأتي السؤال: أين “الحقيقة” وراء كل صفقات التورق هذه؟
لقد حظيت، قبل بضعة أشهر، بفرصة مناقشة مسألة “التورق” هذه مع الدكتور عمر شابرا خلال اجتماع في بنك التنمية الإسلامي في جدة. وقد أقنعتني إجاباته بخطورة هذه التعاملات. ولا نريد أن تتعرض صناعة التمويل الإسلامي للخطر بسبب المنتجات السامة...
وأنا أدرك بالطبع أن عديدا من تعاملات التورق متوافقة تماماً مع الشريعة، ولكني أود أن أحيلكم أيها القرّاء إلى وجهة النظر الصائبة التي عبّر عنها الدكتور محمود الجمل في كتابه عن التمويل الإسلامي: المعاملة ليست متوافقة مع الشريعة بحد ذاتها، فقط لأن صيغتها متوافقة؛ فلكي تكون الصفقة متوافقة مع الشريعة، يجب أن تكون الروح الإسلامية موجودة فيها أيضاً.
أنت تتحدث عن “المنتجات السامة”، وهذا يقودني لطرح سؤال آخر: خلال الأزمة المالية، قيل إن مؤسسات التمويل الإسلامي كانت بعيدة عن الاضطرابات. هل تتفق مع ذلك؟
- أنا أختلف تماماً مع وجهة النظر المطمئنة على نحو زائف. لا شك أن التمويل الإسلامي، حين يكون وفيا لمبادئه، قادر على تجنب توليد أزمة تؤثر في النظام. وقد تلعب هذه المبادئ دوراً في تجنب مثل هذه الأزمة. وحول هذا الموضوع، كنت محظوظا بالاستماع إلى الدكتور مهاتير محمد العام الماضي في كوالالمبور. فقد أوضح ببراعة كيف يمكن للتمويل الإسلامي الإجابة عن بعض المسائل الأساسية التي تثيرها الأزمة المالية. وأعتقد أنا شخصياً أن المبادئ الإسلامية مثل “الحقيقة”، “الاستحقاق”، “المنفعة”، “الشفافية”، توفر حلولاً سليمة لبعض الانجرافات المالية التقليدية مثل “الصفقات الصورية”، “المكاسب السهلة”، “مخطط بوندي”، “الإغراق المالي”... ولكن دعني أكون واضحاً جداً بشأن هذه المسألة: التمويل الإسلامي ليس محصناً ضد تأثير الأزمة!
وهناك عديد من الأسباب التي تفسر رأيي.باعتباره تمويلاً مدعوماً بالأصول، فإن التمويل الإسلامي يعتمد بشكل كبير على العقارات، وإضافة إلى ذلك، فإن الأصول العقارية التي تستند إليها المنتجات المالية الإسلامية مركزة جغرافيا إلى حد كبير. وإذا أوجدت الأزمة المالية أزمة عقارية، فإن التمويل الإسلامي ليس محصناً بالتأكيد!
ويرتبط السبب الثاني بطبيعة الأصول الأساسية الأخرى في عقودنا المالية: المؤشرات الإسلامية. فإذا كانت هذه المؤشرات تساعد حقا صناعتنا على اختيار استثمارات أسواق الأسهم المتوافقة مع الشريعة الإسلامية في أنشطتها (منعنا من الاستثمار في الكحول والسجائر...) فهي أضعف عند تقييم الامتثال المالي لهذه الشركات. علاوة على ذلك، فإن الاضطراب الحقيقي في سوق الأسهم لا يستثني حتى أكثر الأسهم نزاهة.
ويتعلق السبب الثالث بالحقيقة القائلة إن التمويل الإسلامي لا يزال صناعة حديثة جداً وسريعة النمو. فهي صناعة جديدة تفتقر إلى المراجع والخبرة في التعامل مع الأزمات المالية لأنه لم يسبق لها أن مرت بواحدة. وهي أيضاً سريعة النمو (ربما سريعة جدا!) وتواجه صعوبة في عدد اللاعبين الصغار الذين يدخلون هذا المجال؛ صناعة تغريها أيضاً المنتجات المالية الجديدة التي لم يتم بعد “تنظيفها”. وحتى إن كانت صناعة التمويل الإسلامي وصلت إلى الكتلة الحرجة، إلا أن بعض أجزاء هذه الصناعة لا تزال صغيرة الحجم (مثل التكافل وإعادة التكافل) ما يجعلها أكثر عرضة للخطر.
والسبب الرابع، في رأيي، هو بعض مسائل حوكمة الشركات في هذه الصناعة.
هذا أيضاً أحد المجالات التي أردت معرفة رأيك فيها. إضافة إلى تجاربك الأخرى، أنت حقا خبير مشهور في حوكمة الشركات. هل تعتقد أن المؤسسات المالية الإسلامية تسير على الطريق الصحيح فيما يتعلق بهذه المسألة المهمة؟
- لا أريد أن أصدر تعليقات حاسمة في هذه المسألة أيضاً. لقد درست حوكمة الشركات المطبقة على مؤسسات التمويل الإسلامي، ويمكنني القول إن هذا الموضوع معقد بعض الشيء. ففي الشركة التقليدية، هناك هرمية حكم أساسية تطبق بين المساهمين، وأعضاء مجلس الإدارة، والمديرين، وأصحاب المصلحة الآخرين في الشركة. وفي المؤسسة المالية التقليدية، يجب إضافة حكم ثانية: هرمية الحكم المالية التي تشمل وزارة المالية، والبنك المركزي، والهيئات التنظيمية المالية. وفي المؤسسة المالية الإسلامية، يجب إضافة طبقة حكم أخرى: حكم الشريعة الذي له هرمية خاصة به مع السلطات الدينية المحلية، والمجلس الشرعي على مستوى الدولة (حين يكون موجودا)، والمجلس الشرعي في الشركة، والأمانة العامة الشرعية في المؤسسة، وقسم الرقابة الشرعية. وبعد دراسة العلاقات بين هذه التسلسلات الهرمية الثلاثة، وصلت إلى استنتاج مفاده أن التحدي الرئيسي لا يكمن بين المستويات المختلفة داخل كل هرمية، بل التحدي الحقيقي هو الجمع بين التسلسلات الهرمية الثلاثة نفسها. كيف تنشئ وتحافظ على روابط متناغمة بين أعضاء التسلسلات الهرمية الثلاثة وكيف تفعل ذلك على المستويات المناسبة؟ هذا هو، في رأيي، التحدي الحاسم للحوكمة داخل المؤسسات المالية الإسلامية.
والآن، مثل الشركات الأخرى، تتعرض المؤسسات المالية الإسلامية لإغراء “الصفقات الودية” حيث تحفز “الصداقة” الصفقة. ويؤدي هذا بالطبع في كثير من الأحيان إلى حوكمة سيئة. وفي هذا المجال أيضا، المؤسسات المالية الإسلامية ليست في مأمن. ويمكن القول إن بعض المؤسسات المالية الإسلامية أكثر عرضة لمثل هذه “الزلات” بسبب افتقارها للنضج وأيضاً بسبب عدم انفتاح بعض أسواق التمويل الإسلامي.
بالحديث عن مثل هذه التقسيمات الهرمية في صناعة التمويل الإسلامي، كيف تفسر الاختلافات بين علماء الشريعة؟
- أول شيء يمكنني قوله هنا هو أنك لم تعفني من الأسئلة الصعبة..! ولكن بجدية، أريد الإجابة عن أسئلتك من وجهتي نظر.باعتباري رجل أعمال، أحاول تجنب عدم اليقين، وفي هذا الصدد، فإن “انعدام الأمن” الناتج عن الاختلافات بين علماء الشريعة هو أمر “يزعجني” فيما يتعلق بخططي الإستراتيجية. وبوصفي باحثاً في التمويل الإسلامي، فعلى العكس من ذلك، أعتبر هذه الاختلافات حافزاً حقيقياً يجعلني أشعر بالامتنان لكل هؤلاء العلماء المحترمين.
وعلى الصعيد العالمي، أعتقد أن هذه الصناعة ككل يمكن أن تكون ممتنة أيضاً لبنك التنمية الإسلامي بسبب مساهمته في المواءمة: إنشاء بعض المؤسسات المفيدة جداً، إضافة إلى الإلهام الذي توفره مؤسسة الأبحاث التابعة له، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، مفيد جدا في هذا الاتجاه.
إن مرونة التكيف مع مختلف السياقات المحلية والتاريخية، والمبادئ الأساسية العميقة لإيجاد نهج متناغم لمواجهة التحديات العالمية أمام الصناعة، فضلا عن المؤسسات الحيوية للمساعدة على إيجاد الاتجاه الصحيح، لعل كل هذا هو السر وراء نجاح التمويل الإسلامي. وهو نجاح لا يزال بحاجة إلى التأكيد والترسيخ، ولكنه نجاح يمكن أن يفخر به كل لاعب مخلص في هذه الصناعة >