مسرحية كوميدية تأخذ الحكمة من أفواه «العقلاء» وتؤكد «أصحاب الجنون في راحة»!

مسرحية كوميدية تأخذ الحكمة من أفواه «العقلاء» وتؤكد «أصحاب الجنون في راحة»!

في اليوم الثاني من عيد الفطر المبارك، كان علينا أن نتواجد في مسرح مركز سعود البابطين لنكتشف أن الفترة بين تمام العاشرة مساء والحادية عشرة والنصف ستمر بصورة أسرع مما يتوقع بالنسبة لساعة ونصف، ولنقف عملياً على أن فريقا منسجماً من الطاقات الشابة الموهوبة يستطيع أن يدفع قدماً بأي عمل يحفل بدرجة كافية من التماسك ليدخله ضمن دائرة الإبداع، وغالباً، لن تحتاج إلى ذائقة تتمتع بكامل قواها الاستكشافية أن تبذل كثيرا من الجهد لتعرف أن مسرحية ''مستشفى المعاقيل'' ستتولى معالجة أي حالة ملل ناتج عن الإفراط في متابعة أعمال درامية أو مسرحية ضعيفة، وأن مجموعة مكونة من المؤلف سامي الجار الله والمخرج صالح العلياني إضافة إلى الممثلين محمد القس ونايف خلف وطارق الحربي ستكون مسؤولة بشكل مباشر عن المتعة التي يعيشها الجمهور طيلة فترة العرض.
في القاعة الهادئة نسبياً، ذات الكراسي الزرقاء الوثيرة، كان الجميع أمام عمل كثيف في لغته الكوميدية، ينطلق أساساً من فكرة فنتازية معبرة تعيد تشكيل معادلة العقل والجنون وهو ما وصفه المؤلف بقلب طاولة الواقع بحيث يصبح المجانين هم الصوت الواعي للمجتمع ويصبح العقلاء الطبقة المعزولة فيه، والتي يقوم المستشفى بمعالجتها لتعود إلى جادة ''الجنون''!
وبحسب هذه الرؤية المتجاوزة لما هو متخيل، فإن أخذ الحكمة سيكون هذه المرة من أفواه العقلاء ليخلق المفارقة، بينما سيكون أصحاب ''الجنون'' في راحة، بعد أن بلغت غرائبية الحقيقة درجة منحتهم السيطرة المطلقة على الأشياء، تماما كما حكمت على غيرهم من أصحاب التفكير العقلاني تأشيرة الخروج من الحيز الفعلي في واقع لم يعد يحفل بهم.
تدور أحداث المسرحية في العكس المطلق للمنطق والمنطبق حتى على المعاطف التي يرتديها الطبيب ومساعده بطريقة مقلوبة، يحدث كل هذا داخل إطار زماني ومكاني غير محدد، بل إن المسرحية تسعى لتكريس هذا المبدأ ضمن حواراتها التي تأخذ أكثر من طابع وتتحرك في سياقات مختلفة، أما الخط الرئيسي للمسرحية فهو يتعلق بالطبيب ''خالص بن منتهي'' الذي لعب دوره الفنان نايف خلف الذي يتولى معالجة العقلاء، ويواجه عددا من النماذج الإنسانية المتباينة على نحو لافت في ظروفها النفسية وشخصياتها، قبل أن يصاب ''بالعقلانية'' ويفقد قدراته الجنونية السوية، تماما كما يفقد منصبه في المستشفى الذي يتولاه مساعده صاحب الشخصية المميزة ''فلة'' التي أداها الفنان طارق الحربي .. في حين يلعب الممثل محمد القس أدوارا متعددة داخل شخصيته فيؤدي كركتر ''تكانة'' الشاب القوي الذي يهاب الجميع جانبه لتعامله الحازم، وكركتر ''أبو عرب'' الشخصية الرمزية التي تؤدي عدة لهجات عربية داخل الحوار الواحد، وهو ما يحيل المشهد الذهني إلى عمومية الفكرة ووحدة الشعور لدى أكثر من مجتمع، والنجاح هنا لم يكن مقتصراً على إيصال الرسالة، بل في الطريقة التي تم من خلالها فعل ذلك اعتمادا على ممثل يؤدي نصاً يواكب تماماً حجم طاقاته الكوميدية والفنية ويجيد استثمارها.
يمكن وصف مسرحية ''مستشفى المعاقيل'' بأنها حالة من الانسجام الفني بين النص والأداء، مع درجة مسؤولة من الخروج على النص تجاوزت مجرد الإضافة اللحظية على مستواه الكوميدي إلى ما يشبه تشكيل خط فكاهي مواز يمكن دمجه في بنية العمل المسرحي إلى حد لا يستطيع فيه المشاهد أحياناً التأكد من أن حواراً أو آخر هو جزء من النص أم لا، وهذا ما يثبت درجة التناغم بين مخرج يمثل دور قائد الفريق الذي يضبط إيقاع الأداء وكاتب يلعب دور المدرب الذي يتيح للاعبيه من أصحاب المهارات الفردية العالية اللعب بحرية في مختلف مناطق الملعب ودون أن يمثل هذا أي تغيير في المنهجية المتبعة فالمهم هو تسجيل الأهداف الفنية والفكرية التي تضج بها المسرحية فيما لا تصبح مشكلة كبيرة الكيفية التي يتم تسجيلها بها.
كانت ''لبيه، يا أبو عيون وساع'' هي الثيمة الحركية المميزة والتي ارتبطت بشخصية ''فجأة'' الطريفة التي تدخل المسرح بطريقة خاصة يصاحبها أداء بالغ التعبيرية للممثل عبد الله الدوسري وهي لا تقف عند مجرد المشهد المضحك بقدر ما تعبر عن الصوت المتأهب دائما للاستجابة البدهية لأي نداء بغض النظر عن نوعيته، كما كان حضور الشخصية الشعرية للمؤلف سامي الجار الله مميزاً من خلال مقاطع تفعيلية رشيقة جاءت في شكل حوارات هاتفية تحاول في أكثر من مرة الاتصال بالخالة ''حورية'' بوصفها الغاية التي لا يتم الوصول إليها عادة لأسباب غير مقنعة في كثير من الأحوال، وفي جوانب أخرى، تحمل كل شخصية داخلها تصوراً مستقلاً وعلاقة خاصة بالحياة، ما بين ''سليم'' العامل الآسيوي المكتئب، و''عويشق'' الشاب الحساس الباحث عن ظل مفقود للحب، و''فلة'' الذي يمثل بدوره نموذجا مجتمعيا سائدا لإنسان يفهم الأشياء ضمن أحكامه المسبقة عنها ويتحدث بثقة عن أشياء أخرى لا يفقه فيها، بينما جاء دور''الدكتور خالص'' ليمثل حالة الانفصام بين علاج المشكلة والمعاناة منها، فالطبيب ذو البديهة الكوميدية العالية والساخر بطريقة لاذعة من الجميع هو أيضاً الذي يصدق بوجود سحر مجهول في جسده ولا يتمالك نفسه فيبكي تأثراً بحال مريض ''عاقل'' أو لمجرد الشعور بفقدان الحيلة لسبب أو لآخر، وهي حالة الاضطراب التي انتهت به إلى حالة العقل، أما ''نجيب'' الشخصية المهووسة بالكيمياء فقد كانت على الرغم من محدودية ظهورها إحدى أكثر اللمحات المعبرة في المسرحية، ولا يتصل الأمر فقط بحالة ''الكيمياء'' الروحية التي واءمت بين عناصر فريق العمل ضمن معادلة عالية المزاج الفني، وإنما لأنها حملت كذلك بعداً موحياً للمنطق الذي يحاول عبثا تطبيق مسلماته في واقع لا يعترف بها بينما يعترف بمسلماته الخاصة التي لا تمت للصحة بصلة، ولهذا انتهى الأمر بنجيب إلى انفجار إحدى معادلاته الكيميائية في وجهه لأسباب تتعلق غالباً بأنه حاول إجراء تجاربها في بيئة تفتقر لأدنى مقومات المعقول.
المهم بعد كل هذا أن عددا جيدا من الجمهور توصل إلى تركيبة فعالة لقضاء وقته عندما قرر بكامل قواه العقلية اختيار هذه المسرحية نجمة لإحدى سهرات العيد، التوليفة الفنية التي قادها سامي وصالح من خارج المسرح ونايف ومحمد وطارق في داخله استطاعت تقديم عمل أقل ما يوصف به أنه ذكي، ليس فقط لأنه جمع بين كثافته الفكرية مع تلقائيته الأدائية ضمن معادلة لم يكتشفها ''نجيب'' بعد، بل لأنه تحرك في منطقة محايدة تملؤها خفة الظل العفوية وحس الدعابة الحاضرة لدى جميع الممثلين دون استثناء، وتمنحها القدرة على توجيه عدد لا نهائي من التلميحات النقدية التي تجاوزت المفاهيم الضمنية للنص وشملت نظام ''ساهر'' والخطوط السعودية والمسلسلات الرمضانية والاتصالات الدولية على قنوات مشبوهة والتحليل الرياضي وغيرها من اللقطات التي تم تمريرها بحس كوميدي عال في صميم حواريات متماسكة دونما حاجة إلى الوقوع في فخ الخطابية المباشر الذي تقع فيه أغلب مسرحيات .. فيما لم يكن استخدام اللهجات المتعددة مدعاة لتحويلها إلى موضوع سخرية كما يحدث في بعض المسلسلات الكوميدية المحلية، غير أن مربط الفرس في تقديري لكل مراحل العمل كان حس الكوميديا العفوي بين ممثلين يبدعون في إدارة النص والأداء والحركة بينهم بشكل بالغ التلقائية لدرجة أن بعض المشاهد كانت تتضمن ردود أفعالهم الآنية على طرفة أو أخرى، بحيث يتم القضاء مبكرا على أي احتمال لنكتة لا تواكب الحد الأدنى لسقف الدعابة الأمر الذي سيضع صاحبها أمام مهلة آنية للإتيان بغيرها في ظرف لحظات وإلا فسيكون عليه أن يمثل وحيدا على خشبة المسرح، الأمر الذي سيقود بدوره إلى تقديم تصور ساخر لفن المونودراما على النحو الذي أبدع فيه نايف خلف والمهم دائما أنك ستكون في وتيرة كوميدية متواصلة طيلة مشاهدتك لمسرحية ''مستشفى المعاقيل''.
هو عمل يستحق أن يكون في مقدمة مسرحيات الأمانة لهذا العام، فقد احترم عقل مشاهده ومنحه وقتاً ممتعا مع الكوميديا الحقيقية، لم يكن هناك من يقاطع الإعلاميين لمنعهم من التقاط الصور، كما أن الأطفال الذين ظلوا يكررون النداء لشخصية ''فجأة'' كانوا أكثر وعياً من نوعيات الجمهور التي تتهكم على الممثلين وتحوّل المسرح إلى مدرج كرة قدم، ليس لهذا علاقة طبعا بمنتخب التلقائية وقائده ومدربه الذين تحدثنا عنهم، المجموعة المسؤولة بشكل مباشر عن انقضاء ساعة ونصف بأمتع طريقة ممكنة ودون أن يشعر أحد بها!

الأكثر قراءة