نصيحة روزفلت في التعامل مع بنوك أمريكا العملاقة
قبل ما يزيد قليلاً على 100 عام، قادت الولايات المتحدة العالم نحو إعادة النظر في كيفية عمل الشركات التجارية الكبرى ـ ومتى ينبغي تقييد قوة مثل هذه الشركات. وحين نسترجع الماضي الآن سيتبين لنا أن التشريع الفاصل, ليس فقط في الولايات المتحدة، بل على المستوى الدولي أيضاً, كان قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890.
والواقع أن مشروع قانون دود - فرانك للإصلاح المالي، الذي يوشك مجلس الشيوخ الأمريكي على إقراره، يفعل بالعمل المصرفي أمراً مماثلاً - طال انتظاره.
قبل عام 1890 كانت الشركات الضخمة تعد على نطاق واسع كيانات أكثر كفاءة وأكثر حداثة عموماً من الشركات الصغيرة. ولقد رأى أغلب الناس في دمج الشركات الأصغر حجماً في عدد أقل من الشركات الضخمة تطوراً يعزز الاستقرار ويكافئ النجاح ويسمح بمزيد من الاستثمار المنتج. بيد أن ظهور أمريكا باعتبارها قوة اقتصادية عظمى لم يصبح ممكناً إلا بفضل مصانع الصلب العملاقة، وشبكات السكك الحديدية المتكاملة، وحشد احتياطيات هائلة من الطاقة من خلال مشاريع مثل ''ستاندرد أويل''.
بيد أن الشركات متزايدة الضخامة كانت لها أيضاً تأثيرات اجتماعية عميقة، لكن لم تكن كل هذه التأثيرات إيجابية. ذلك أن الأشخاص الذين أداروا الشركات الضخمة كانوا في كثير من الأحيان مجردين من المبادئ أو الضمير، وفي بعض الحالات كانوا يستغلون موقفهم المهيمن على السوق لإخراج خصومهم من المنافسة, الأمر الذي سمح للشركات الناجية بتقييد العرض ورفع الأسعار.
صحيح أن الهيمنة على السوق كانت واردة في الأسواق المحلية والإقليمية في أمريكا في منتصف القرن الـ19، لكنها لم تكن شيئاً يذكر مقارنة بما شهده نصف القرن اللاحق. فقد عملت الشركات الضخمة على إدخال تحسينات كبرى على الإنتاجية، لكن هذه التحسينات زادت أيضاً من قوة الشركات الخاصة ومكنتها من العمل على النحو الذي ألحق الضرر بالسوق الأوسع نطاقاً ، والمجتمع.
ولم يتمكن قانون شيرمان ذاته من تغيير هذا الوضع بين عشية وضحاها، لكن بمجرد تولي الرئيس تيودور روزفلت هذه القضية، تحول ذلك القانون إلى أداة قوية يمكن استخدامها لكسر الاحتكارات في مجال الصناعة والنقل. وبهذا، نجح روزفلت ومن ساروا على خطاه في تحويل إجماع الآراء إلى الاتجاه المعاكس.
كانت أولى قضايا روزفلت ضد شركة نورثن للأوراق المالية عام 1902 مثاراً للجدال العميق. لكن قرار تفكيك شركة ستاندرد أويل بعد عشرة أعوام ـ ولعلها كانت الشركة الأعظم قوة في تاريخ العالم حتى ذلك الوقت ـ كان في نظر الرأي العام قراراً معقولاً تماماً. ولقد تمت عملية تفكيك شركة ستاندرد أويل على غرار الأسلوب الأمريكي العظيم: حيث تم تفكيك الشركة إلى أكثر من 30 قطعة، وكان أداء حاملي الأسهم جيداً للغاية، والتفتت عائلة روكفلر إلى إعادة تأهيل نفسها في أعين الرأي العام الأمريكي.
لكن لماذا لا تستخدم أدوات مكافحة الاحتكار هذه ضد بنوك اليوم العملاقة، التي أصبحت تمتلك ما يكفي من القوة للتأثير في التشريعات والتنظيمات لمصلحتها، في حين تتلقى عمليات الإنقاذ السخية الممولة بأموال دافعي الضرائب؟
الإجابة هي أن هذا النوع من القوة التي تمتلكها البنوك الضخمة اليوم يختلف تماماً عما تخيله واضعو قانون شيرمان ـ أو هؤلاء الناس الذين عملوا على صياغة تطبيقاته في السنوات الأولى من القرن الـ20. ذلك أن البنوك لا تملك قوة تسعير الاحتكارات بالمعنى التقليدي، فضلاً عن ذلك فإن حصصها في السوق - على المستوى الوطني - أصغر من أن تؤدي إلى إطلاق تحقيق خاص بمكافحة الاحتكار في القطاعات غير المالية.
وفي إطار الإصلاحات المصرفية في الثلاثينيات من القرن الـ20 تم فرض أسقف لأحجام البنوك، كما بُذِلَت بعض الجهود للحفاظ على مثل هذه القيود في قانون رايجل ـ نيل عام 1994. لكن كل هذه القيود نحيت جانباً أثناء عملية إزالة القيود التنظيمية طوال السنوات الـ15 الماضية.
لكن الآن نشأ نوع جديد من مكافحة الاحتكار - في هيئة تعديل كانيورسكي، الذي كانت لغته بمثابة جزء لا يتجزأ من مشروع قانون دود ـ فرانك. وبمجرد تحول مشروع القانون إلى قانون فعلي، فإن الأجهزة التنظيمية الفيدرالية ستمتع بالحق وتتحمل المسؤولية عن الحد من أحجام البنوك الضخمة، كلما لزم الأمر، وتفكيكها إذا فرضت ''خطراً داهماً'' على الاستقرار المالي.
وهذا ليس احتمالاً نظرياً - تجلت هذه المخاطر بوضوح أواخر 2008 وأوائل 2009. ويظل من غير المؤكد بطبيعة الحال إذا ما كان القائمون على التنظيم سيتخذون مثل هذه الخطوات. لكن طبقاً لتعبير النائب بول كانيورسكي، القوة الدافعة الرئيسة وراء هذا التعديل، فإن ''الدرس الأساسي المستفاد من العقد الماضي هو أن القائمين على التنظيم المالي لا بد أن يستخدموا سلطتهم بدلاً من تدليل أصحاب المصالح في الصناعة''.
وربما كان كانيورسكي محقاً في اعتقاده أن الأمر لا يحتاج إلى كثير من الجهد. فهو يقول: ''إذا أقدم شخص واحد فقط من القائمين على التنظيم على استخدام هذه الصلاحيات غير العادية (تفكيك البنوك الأضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس) ولو لمرة واحدة، فإن هذا من شأنه أن يبث رسالة قوية، رسالة قادرة على إرغام شركات الخدمات المالية على إصلاح الكيفية التي تتصرف بها إلى الأبد''.
إن الجهات التنظيمية قادرة على القيام بكثير، لكنها تحتاج إلى التوجيه السياسي من أعلى المستويات من أجل إحراز تقدم حقيقي. وإذا كان شعار تيدي روزفلت المفضل هو ''تحدث بلطف واحمل عصا غليظة''، فإن تعديل كانيورسكي يُعَد بمثابة عصا غليظة للغاية. لكن تُرى من قد يُقدِم على التقاطها واستخدامها؟
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org