الهـــمم العـــــالية

خلق الله الإنسان وميزه على جميع المخلوقات بالعقل وجعله خليفة له في أرضه واستعمره فيها، لذلك نرى من الناس من يعمر ويصلح ويبني ويتقدم ويطوِّر، ومنهم من يفسد ويهلك دون مراعاة لعاقبة ذلك في الدنيا والآخرة.
والإنسان كما ينظر إلى الدنيا ويعمل فيها ويعمل لها عليه ألا ينسى الآخرة فهي الدار الباقية والدنيا مزرعة لها وممر ومعبر يوصل إليها، والدنيا وسيلة وليست غاية في حد ذاتها فلا تشغل الإنسان دنياه عن أخراه حتى لا يندم في يوم لا ينفع فيه الندم.
قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. (77) سورة القصص
ويقول الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم: « مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِي رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ ».
مما سبق يتبين أن العاقل هو الذي يوازن بين دنياه وأخراه، يعمل للدنيا كأنه يعيش أبدا ويعمل للآخرة كأنه يموت غدا، ويجعل له قدوة يقتدي بها وقمة يرنو إليها ويسعى جاهدا حتى يصلها، لا يرضى بالقليل ويركن إليه ويتكاسل عن بلوغ الأماني العالية.
يقول المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم.
ويقول أيضاً:
وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجسام

فالإنسان إذا كانت همته عالية ينظر إلى المستقبل ولا يقف عند الماضي أو يتحجر عند الحاضر وإنما هو في تطور مستمر يواكب متغيرات العصر ولكن بضوابط لا تخرجه من دينه أو تنسف ما لديه من أصول وأسس وثوابت.
والعاقل هو الذي لا يترك نفسه للريح تحركه كيف شاءت وإنما يسير حيث أراد ، يقف على قواعد ثابتة تؤهله لكي يطور ويبني ويرتقي ويبلغ المجد من أوسع أبوابه وبذا سينفع نفسه وأهله ووطنه ويترك ذكرى حسنة لا تندثر مع السنين.
هذا الإنسان هو صاحب الهمة العالية يضع بصمته ويغيِّر ما حوله للأفضل وينهض بمن حوله فهو ليس أنانيا يعيش لنفسه فقط، وإنما هو شخص يفيد نفسه والآخرين.
فعلى كل واحد منا أن يكون عالي الهمة يريد أن يغير ما حوله للأفضل ويسعى بمن حوله إلى الأمام حتى يسعد في الدنيا والآخرة ويترك وراءه ما يذكره الناس به بعد مماته من جلائل الأعمال وجميل الصفات فهو خالد بأعماله على الرغم من فناء جسده ويكون قدوة لغيره ومثلا عظيما يضرب لهم على مر السنين.
يقول الشاعر:
ارفع لنفسك قبل موتك ذكرها *** فالذكر للإنسان عمر ثان
وأخيرا .. أدعو الله العلي القدير أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه وأن يجعل عملنا في رضاه وأن يجعلنا هداة مهديين لا ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي