Author

القراءة قد تختلف.. أما النص المقدس فلا يتبدل تبديلا

|
أستاذ جامعي ـ السويد
دراسة النص بدأت تأخذ أبعادا كثيرة ومتشعبة في عالم اليوم. في كثير من جامعات العالم، ومنها جامعتنا، تخصص كراسي الأستاذية لهذا الغرض وتجري دراسات وأبحاثا تقود إلى أعلى الشهادات العلمية مرتبة. وأغلب هذه الدراسات أكاديمية المنحى يصعب حتى على كثير من المختصين سبر أغوارها. ويتهم المختصون من أمثالي ممن يجهدون ويكافحون من أجل تبسيط هذا العلم المهم كي تستوعبه عامة الناس بالسطحية. ولكن ما فائدة علم همه قراءة النصوص وتفسيرها، ولا سيما التي تتعلق مباشرة بحياتنا، إن ظل حبيس أبراج ولو كانت من العاج؟ وشخصيا استفدت كثيرا من هذا العلم، ولا سيما عند قراءتي القرآن، الكتاب الذي إن فاتني يوم ولم أقرأ آيات منه أعد ذلك اليوم غير محسوب من عمري على هذه الأرض. والقرآن نص مكتوب نزل شفويا على رسول اصطفاه الله على سائر البشر كي يبلغ بني قومه به ومن خلالهم سائر الدنيا. والنص، إن كان دينيا أو دنيويا، يستقي أهميته من قراءته. ما فائدة نص مركون في زاوية في مكتبة تعلوه آثار الغبار؟ والقرآن ربما يكون أكثر النصوص قراءة في العالم. وأهمية النص أيضا تنبع ليس فقط من كثرة قراءته بل من كثرة تفاسيره وأوجهها المختلفة. والقرآن ربما يكون من أكثر النصوص في العالم من حيث تعدد قراءاته واختلاف تفاسيره. وأكثر النصوص أهمية هي تلك التي تثير الجدل وتستفز العقل من خلال إثارتها أسئلة جوهرية تمس كياننا كبشر ووجودنا على هذه الأرض ما يجعلنا أحيانا في حيرة من أمرنا. والقرآن - من وجهة نظري المتواضعة - نص يثير من الأسئلة ما يحير عقلنا ويحفزنا كي نستخدمه بمنطق يستجيب لمتطلبات حياتنا في هذه الدنيا والآخرة. ولأن القرآن يخاطب عقولنا وقلوبنا مباشرة ويدعونا إلى التفكير العميق في وجودنا وعلاقتنا مع الكون وخالقه، فإنني لا أستغرب على الإطلاق المشاجرات والاختلافات بين المفكرين المسلمين ووجهات نظرهم المختلفة حول مسائل أساسية أو حتى هامشية في حياتنا. العقل لا يتحرر إن لم نستخدمه - أي نجادل به ونخاطب به أو بالأحرى نبارز به. ما يحزنني لا بل يوصلني إلى درجة القنوط أحيانا هو استخدام عقولنا وقراءتنا وتفسيرنا لإلغاء وإقصاء الآخر، لا بل تكفيره والدعوة إلى استباحة دمه. العقل الاستبدادي هو أخطر شيء على النص، دينيا كان أو دنيويا، لأنه يؤدي إلى جمود لا بل موت مفاصل الفكر في حين أن القرآن كنص يدعونا في أكثر من مكان إلى إنقاذ أنفسنا وعقولنا من الجمود. انظر كيف يدعونا هذا الكتاب الإلهي إلى استخدام عقولنا لسبر أغوار وجودنا في هذا الكون من خلال الدعوة إلى التفكير والاستقراء. المؤشرات النصية أو اللغوية التي تدل على إعمال العقل والتفكير والاستقراء تكمن في إشارات أو علامات السؤال والاستفهام والتعجب. هل تعلمون كم مرة يدعونا القرآن إلى استخدام عقولنا لفهم أنفسنا وما حولنا؟ هل قام أحد بإحصاء عدد الأسئلة التي يثيرها الله في كتابه باستخدام أداة الاستفهام «ألم» مثلا، ويدعو نبيه إلى التأمل فيها؟ لم أفلح في إحصاء عدد المرات التي يدعونا الله فيها إلى التأمل والتفكير لتحرير فكرنا وعقولنا لاستقراء ما حولنا من زمان ومكان. «ألم» هي واحدة من عشرات الأدوات اللغوية التي يستخدمها القرآن لحثنا على التفكير العميق واستخدام عقولنا للوصول إلى الحقيقة. أحصيت عشرات الجمل الاستفهامية التي تبدأ بـ «ألم»، عدا شقيقاتها مثل «أفلا» و»أولم» و «أألم» التي يرد ذكرها في الذكر مرات عديدة، وهذه بعض منها: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ» «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً» «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ» «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ» «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» لم أقتبس هذه الآيات الكريمات لملء المساحة المخصصة لهذا العمود. اقتبستها لأنها تحضّني على التفكير، تدعوني إلى استخدام موهبة العقل التي منحني إياها الله ومن خلالها وبالاستعانة بالنص - الذي لا يتبدل - إلى اكتشاف أمور كانت غائبة عني ولولاها لقصرت في فهمي نفسي كإنسان والآخرين كإخوة في الإنسانية والوقوف مذهولا أمام عظمة الكون وخالقه. هذه قراءتي لهذه النصوص. السؤال هو، هل يحق لنا أن نقرأ بأنفسنا أم علينا اتباع قراءة غيرنا، ولا سيما التي تبتعد عنا كثيرا من حيث الزمان والمكان؟ وإلى أن نلتقي في الجمعة القادم، أترككم أعزائي القراء في رعاية الله وحفظه.
إنشرها