«الاكتساب في الرزق المستطاب» .. للشيباني

تبدو قضية العمل والبحث عن الكسب من القضايا التي كانت تشغل المجتمع الإسلامي منذ وقت مبكر، ولذا فإننا نجد مجموعة من المؤلفات التي تعظم دور العمل وتحث على الكسب في مواجهة الدعوة إلى التكاسل والتواكل بدعوى أن الرزق مكتوب من عند الله، ومن الكتب التي جاءت في هذا المضمار، كتاب "الاكتساب في الرزق المستطاب" للإمام محمد بن الحسن الشيباني، الذي عاش في القرن الثاني الهجري، وهو صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان.

يعد كتاب الشيباني من أشهر الكتب التي ألفت في مجال الحث على العمل والكسب والاجتهاد فيه، وذلك واضح من عنوان كتابه المذكور آنفاً، فقد جعل العمل في أولوية السلم الاقتصادي المفروض على كل مسلم، وحشد في بداية حديثه مجموعة من الآيات والأحاديث التي تحث على الكسب، فقال: "إن الله فرض على العباد الاكتساب لطلب المعاش ليستعينوا به على طاعة الله، والله يقول في كتابه العزيز {وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا}، فجعل الاكتساب سببا للعبادة، وقال {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}، أي بجنايتكم على أنفسكم، فقد سمى جناية المرء على نفسه كسبا". ثم بعد أن أورد هذه الآيات الكريمة وغيرها، جاء بالأحاديث الدالة على فضل الكسب، فقال: "ورد عن رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ أنه قال "طلب الكسب فريضة على كل مسلم"، وفي رواية قال "طلب الكسب بعد الصلاة الفريضة بعد الفريضة"، وقال عليه السلام "طلب الحلال كمقارعة الأبطال، ومن بات كالا من طلب الحلال بات مغفورا له". ثم بعد أن فرغ من ذكر مجموعة كبيرة من الأحاديث، عرج على سير الصحابة، فقال: "... وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد، فيقول: لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أُقتل في سبيل الله، لأن الله تعالى قدم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين، بقوله تعالى {وآخرون يضربون في الأرض}.

ويشتمل الكتاب على حقائق ومعلومات ومفاهيم لبعض المصطلحات المتعلقة بمجال الكسب والسعي فيه، وكذلك لأنواعه، وأحكامه، وكان يسعى في كل ما يورد إلى إبطال مقولات الذين يدعون إلى الجلوس والكسل لأن الرزق من الله مكتوب ولا مفر منه، كما يتحدث عن التوكل والأخذ بالأسباب، والمفاضلة بين الاشتغال بالكسب والتفرغ للعبادة، والشكر على الغنى أم الصبر على الفقر، وبعد ذلك يبدأ بشرح تفاصيل المفاضلة بين التجارة والصناعة، والحاجات الاقتصادية والاستعمالات الواردة عليها، وتطرق إلى بعض المشكلات الاقتصادية التي تنتج عن الحاجات اللانهائية والموارد الإنتاجية النادرة، مشيرا إلى التخصص في العمل الذي يحقق المصالح المعيشية، فالفقير بحاجة إلى مال الغني والغني بحاجة إلى عمل الفقير .. وهكذا تدور عجلة الحياة، فتقسيم العمل ليس فقط ضرورة اقتصادية بل هو إلزام ديني ووسيلة للحصول على ثواب من الله تعالى لتحقيق المتطلبات والحاجات الاقتصادية للجماعة. وقد ذكر الشيباني أن الاكتساب فريضة على كل مسلم، وأسهب في التدليل على ذلك بأن العزوف عن العمل النافع يوم أن يشيع ويعم المجتمع المسلم تأثم الأمة كلها، فذلك من فروض الكفاية التي إذا لم يقم به البعض أثمت الأمة كلها وأخرجها ذلك إلى أن تكون عالة على غيرها من الأمم.

ومما توسع الشيباني في شرحه مراتب الكسب وأحكامه، وحكم الكسب لجمع المال، وحكم التفاخر والتكاثر، والإسراف والاعتدال في الملبس والمأكل، ويعالج قضايا الارتزاق، ويرشد إلى سبل الكسب الحلال المشروع، إلا أنه فرق بين المباح والممنوع، فأكد أن الإسلام لا يبيح للفرد أو الجماعة إنتاج ما يضر بصحة الناس أو بخلقهم أو بمجتمعهم، أو سلامة حياتهم الإنسانية، وحرم ما يسبب إنتاجه خللا في العقل أو الجسم كالخمور والمسكرات والمخدرات وإنتاج أدوات القمار واللعب، وحذر الإسلام المؤمنين من إنتاج ما يهلك الحرث والزرع والنسل ويضيع الوقت بلا جدوى، وقد أفاض في ذكر الأدلة الواضحة التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من خلال الأحاديث النبوية المتنوعة في هذا المجال.

ومما تجدر الإشارة إليه أن أهمية الكتاب تنبع من كونه قد أغرق في الحث على الكسب وإعطاء الأهمية الاقتصادية لكل فروع النشاط الاقتصادي، وجعلها منتجة، ومباحة لجميع الأفراد، وأسهم في محاولة تأصيل المعيار الإسلامي لاعتبار إنتاجية أي عمل اقتصادي، حيث جعل العمل المنتج هو العمل المشروع، إضافة إلى ذلك فإنه أسهم في تأصيل حكم بعض المفاهيم الاقتصادية كالإنتاج، والاستهلاك، والإنفاق، وأشار إلى الحاجات الاقتصادية، وتعددها، وضرورة إشباعها، وترشيد استهلاكها، ومحدوديتها، ويرى بعض الباحثين أنه في ذلك ربما يخالف الاقتصاديين الذين يرون عدم محدودية الحاجات.

إن الكسب في الإسلام ــ كما يرى الشيباني ــ مرتبط ارتباطا وثيقا بالأخلاق والعبادة، وارتباط الاقتصاد الإسلامي بالقيم الخلقية، والمبادئ الشرعية، ويظهر أثر الاقتصاد جليا واضحا في العبادات، كما أن الإنتاج كذلك مرتبط بالعبادات، وقد أسهب في الحديث عن عناصر الإنتاج، ولاسيما رأس المال الناتج عن العمل الذي ذكر أنواعه، فمنه المشروع ومنه غير المشروع، وأكد على أهمية التخصص فيه، وأشار إلى أهمية التعاون المشروع في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وربطه بالجانب العقدي والأخلاقي، وأثر ذلك كله في التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، وتوزيع الثروات على فئات المجتمع بالعدل. ولا ننسى أن الشيباني تطرق في كتابه إلى مسألة الإنفاق وما يجب فيها وعليها من الضوابط، وهي قضية باتت تؤرق الاقتصاديين اليوم، وإن عدم الأخذ بمثل هذه الضوابط التي تتعلق بالإنفاق وسلوك المستهلك يمكن أن يؤدي إلى آثار اقتصادية سلبية: كالانكماش، والكساد، والبطالة، وتبديد مصادر الإنتاج.

ويبقى كتاب "الاكتساب" للشيباني من نوافذ المعرفة المالية التي نطل من خلالها على أدبيات الاقتصاد الإسلامي، ويمكن الاستفادة منها اليوم في ظل الظروف الاقتصادية والأزمات العالمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي