عاصفة مطر وعاصفة غبار وإدارة الأزمات والكوارث

يقولون في العامية ''دلو ماء ودلو طين''. وهي في الحقيقة تحاكي أجواءنا في مدن المملكة. فنحن إما نعاني من عواصف الغبار وننتهي بعواصف الأمطار. ولا أستبعد أن نرى قريبا مشكلات السحب البركانية. وقد يكون نصيبنا من الغبار أوفر. ولكن عواصف الأمطار أصبحت خطرا مروعا لم نعهده من قبل. فبعد أن كنا نطلب ونصلي صلاة الاستسقاء أصبحنا نوعاَ ما أكثر حذرا، فالأمطار مع أنها خير، إلا أنها أصبحت تخوفنا أخيرا. فما إن نسمع صوت الرياح أو السحب نبدأ في التفكير أكثر فيما لو أردنا الخروج من المنزل. وثقافتنا لهاتين الظاهرتين في بدايتها وكأننا أحداث. لقد أصبحت هاتان الظاهرتان تهددان بوقوع كوارث إذا ما كانت قد أدت إلى إحداث الوفيات والتلف للممتلكات في كبريات مدن المملكة. وما ينقصنا هو الثقافة أو الوعي للتعامل مع تلك الظاهرتين. وقد سبق أن كتبت مقالات عدة في هذا المجال، وعن التوعية والاستعدادات التي يجب أن نقوم بها للحد من أخطار تلك الكوارث سواء للمواطن أو الدولة. فإيجاد هيئة لإدارة الأزمات أصبحت ملحة اليوم أكثر من ذي قبل. بدلا من اللجوء للتطوع الفردي وما يسببه من وفيات. فموضوع إدارة الكوارث متشعب والإخفاق قد يكون بسبب تعدد الجهات والمجهودات وصعوبة تحديد المسؤوليات أو تضاربها. فوجود عدة جهات وتطوع المواطنين قد يجعل أو يسبب صعوبة في تحديد دور كل منهم وواجباته.
ومن جهة أخرى، فنحن أصبحنا لا نعلم من المسؤول وعن ماذا؟ شبكات البنية التحتية هي شبكات مترابطة وتجري تحت الأرض متجاورة. ولكن لكل شبكة مجرى وتتبع جهة مختلفة. بل إننا شاهدنا أثناء أزمة الأمطار في مدن المملكة ـ أن ''الطاسة ضايعة'' ـ أو أننا لا نعلم من نلوم. فمرة نلوم الأمانات ثم نجد أن أغلبية الأنفاق التي غرقت فيها السيارات هي تحت إشراف وزارة النقل. بينما أن اللوم على وزارة الشؤون البلدية والقروية التي هي مسؤولة عن تخطيط المدن. وقد أشرت إلى ذلك في مقال سابق قبل عشر سنوات، حيث أوضحت أن تجمع المياه في الطرق والأنفاق راجع إلى تجاهل مخططي المدن للمجاري الطبيعية والحلول الطبيعية لتصريف المياه، إضافة إلى شبكة تصريف مياه السيول والأمطار التي منذ ذلك الوقت وهي لم تتعد ثلث ما تحتاج إليه المدينة. لقد سمحت الوزارة لجميع المطورين أن يمسحوا طبيعة الأرض. فأصبحت مدننا مستوية كالكف. وبهذه الطريقة لن نتمكن من تصريف المياه كما لو كانت على وضعها الذي خلقها الله عليه. لقد أثرنا حتى في شكل الكرة الأرضية فأصبحت ملساء أو مسطحة بمساحة مدن المملكة. وهذا قد يكون له تأثيره على دوران الكرة الأرضية. وقد نلام على ذلك.
وفي النهاية سنجد أن السبب هو عدم وجود جهة مركزية مسؤولة عن التخطيط للبنية التحتية وغياب أو عدم وجود جهة مركزية مسؤولة عن إدارة الأزمات والكوارث. فعلى الرغم من أن البنية التحتية هي من أهم أولويات التنمية والتي يجب أن نبدأ في الاستثمار وفق برنامج زمني وتخطيط يتوافق مع النمو السكاني والطلب المتزايد عليها، إلا أن مسؤوليتها مازالت مشتتة في عدة جهات. بل هي من الأولويات، وأهم من الاستثمار في المدن الاقتصادية. وحتى لا نبلى بكوارث أخرى مستقبلاَ سواء فيضانات أو انقطاع مياه أو كهرباء أو اتصالات أو حوادث واختناقات مرورية, فإنني أرى أننا يجب أن نبحث موضوع تكوين وزارة للبنية التحتية كما هو موجود في معظم دول العالم مثل الولايات المتحدة واليابان وأستراليا. وهي وزارات تعمل وفق مؤشرات أداء مطلوبة منها لكل عام ويتم مناقشتها كل عام لمعرفة مستوى الأداء ومدى الإنتاجية. فالمطلوب وزارة ليست على غرار الوزارات الحالية, بل وزارة فيها جهاز استشاري كبير ومؤهل ويدعمها خبراء عالميون ويكون لها مخصصات مالية تحت تصرفها وبطريقة مراقبة. وتكون هي الجهة التي تخطط وتشرف على التنفيذ وتتحمل اللوم أو الثناء. وهو مطلب سبق أن تبناه منتدى الرياض الاقتصادي في دورته الثالثة قبل عامين. حيث قدم دراسة لأهمية البنية التحتية وضرورة وضع استراتيجيات لسرعة تنفيذها وكان من أهمها التوصية بإيجاد وزارة للبنية التحتية نظراَ لأهميتها. ولتضع حداَ لما تعانيه معظم مناطق المملكة من نقص شديد في وصول البنية التحتية من شبكات المياه والصرف الصحي والطرق وغيرها. فالبنية التحتية تمثل العصب الشوكي وشريان الحياة لجميع أنشطة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمعات المتحضرة. ودونها لا يمكن تحقيق أي تطور أو رفاهية حضارية للمجتمع.. وهذه الحقيقة تؤكدها الدراسات والأبحاث القديمة والحديثة، كما تؤكدها الرؤية الواقعية والراشدة لما تؤدي إليه خدمات البنية التحتية من دعم وتكامل وربط لمقومات الاقتصاد.
نحن اليوم ندفع الثمن غالياَ بسبب تأخرنا في تنفيذ أو الصرف على شبكات البنية التحتية خلال القرن الماضي وتباطؤنا في تشجيع القطاع الخاص للمشاركة في تطوير الخدمات فوقفنا عند تخصيص قطاع الاتصالات. وهو أنجح مجال. وقد تكون تجربتنا في تخصيص شركة المياه من أسوأ التجارب فهي تجربة بمجهود فردي وليس هناك هيئة قوية تشرف عليها كما هو الحال في قطاع الاتصالات.
التخصيص لا يلغي دور الدولة، بل المفروض أن يسمح لها بالاحتفاظ بالتحكم في السياسات العامة ووضع المعايير والإشراف والمتابعة، بينما يتم تحويل المخاطر الاقتصادية إلى القطاع الخاص وتكسبه نوعاً من الكفاءة والرشد المهني، إضافة إلى توفير فرص العمل وتطوير الموارد البشرية للدولة. وتتم ضمن أطر ومحددات يحكمها ويربطها اتفاقيات ومذكرات تفاهم ووفق مخططات شاملة حالية ومستقبلية وضوابط تقنية وفنية متكاملة لتخطيط وتطوير وتنفيذ وتشغيل وصيانة خدمات البنية التحتية على مستوى الدولة.
وتبرز أهمية الاستمرار في تخطيط وتطوير وتمويل وتنفيذ خدمات البنية التحتية إلى أنها على الرغم من ضرورتها وأهميتها لتجنب الكوارث إلا أنها تساعد على زيادة الناتج الاقتصادي بطريقة مباشرة من خلال زيادة فاعلية وإنتاجية رأس المال وزيادة جاذبيتها للاستثمار الأجنبي ونمو الاقتصاد الوطني وزيادة فاعليته المالية.
وهذا التوجه العالمي والاهتمام بالبنية التحتية ودورها في مساندة التنمية المستدامة يدعو إلى التساؤل عن مدى توافر هذا الاهتمام في السعودية. ومدى تكامل البنية التحتية فيها وأثر ذلك فيما تواجهه المملكة من منافسة متزايدة من الدول الأخرى لجذب واستقطاب الاستثمارات الأجنبية، بكل ما يرتبط بذلك من تقنيات ومعرفة بالأسواق التي تسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلع إليها الدول في العالم الثالث خاصة.
أعتقد أن الأحداث الأخيرة لكلتا الظاهرتين سواء الأمطار أو الغبار أو غيرهما تتطلب منا إعادة النظر في توصيات منتدى الرياض الاقتصادي بضرورة إيجاد وزارة للبنية التحتية وبنك مستقل لتمويلها. والبدء في موضوع نفق يضم وينسق جميع الخدمات تحت الأرض بدلاَ من الحفريات المتكررة. ومحاولة التعرف على مشكلات سياسات التخطيط والتطبيق الحالي وما يتبع ذلك من نتائج وإخفاقات، وذلك لكي يتم تشخيص المشكلة ووضع الحلول لتخطيط وتنفيذ وتمويل لخدمات البنية التحتية بهدف ضمان الوصول إلى تنمية مستدامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي