المنتجات الطازجة .. تحتاج إلى اختبارات الجودة
لا يكاد يمر يوم دون أن نستهلك عشرات الأصناف الزراعية في أطعمتنا، كالخضراوات بنوعيها الثمري والورقي أو الفواكه بقسميها المحلي والمستورد، إضافة للحبوب بكافة أنواعها .. غير مكترثين لمصدرها أو سلامة منبتها، وأفضل ما نعتمد عليه في معايرة جودتها هو حسن منظرها، وتاريخ قطفها، وخلوها من الرائحة الغريبة والعفن، فإن استطابت لها النفس، وسُرّتْ لها العين، ألقمناها فوهة السلّة، وإن لم .. بحثنا عن غيرها، وهكذا، لكن .. هل المنظر والشكل النضر يعد المعيار الأمثل للحكم على الناتج الزراعي؟
ربما كان هذا صحيحاً قبل عقدين وأكثر، حيث كانت الأنشطة الزراعية تعتمد على العوامل الطبيعية في الاستزراع والإنتاج، أما اليوم .. وبعد أن دخل العامل الكيميائي على الخط، إضافة إلى عوامل أخرى صناعية عديدة ذات تأثير مورفولوجي وفسيولوجي بشكل مباشر في المنتج الزراعي.
فإن الأمور أضحت مختلفة، وأصبح من الصعوبة بمكان أن يقيس المستهلك معيار الجودة بالطرق التقليدية، مما أدى إلى تنامي حدة القلق لديه، ولاسيما حينما شعر بتجاهل الجهات الرقابية المعنية بالغذاء والدواء في البلد لمراقبة المزارع والمنتجات الزراعية، وتركيز جهودها على المنتجات المعلبة والمستوردة، وكأن المنتجات المحلية الطازجة في منأى عن التلوث.
الحرب الضروس القائمة بين الآفة الزراعية وبين المُزارع ؛ أدت إلى زيادة تسلح الأخير بأسلحة كيماوية عالية التأثير وشديدة السمية تقوض من معدل تنامي تلك الآفة وتحقق للمنتج القدر الكافي في مقاومة أضرارها، لكن هذا الإجراء خلق حالة من القلق والتوتر لدى المستهلك ولا سيما بعد تعالي صرخات المناوئين لهذه الأساليب العلاجية وتحذيراتهم المتتالية من مغبة الإفراط في استخدامها.
إن توافر النظام الرقابي على السلوك الزراعي والإشراف بشكل مباشر عليه أمر في غاية الأهمية، خاصة فيما يتعلق باستخدام المبيدات الحشرية، فبعضها كما تشير الدراسات العالمية المعتبرة إلى خطورتها وحدة سميتها، مثل دراسة العالم المكسيكي (ماريومولينا) عن مركب (البروميد - الميثيلي) الذي كان استخدامه مشاعا في تركيبات المبيدات الحشرية في أواخر القرن الماضي، هذه الدراسة كانت السبب في حصول هذا العالم على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1995م وكانت السبب أيضاً في حظر استخدامه .
والبعض الآخر من المبيدات لم يجر على مكوناتها الدراسة الكافية القاطعة بأمانها وسلامة التعامل معها .
وبعض الدراسات تؤكد أن للمبيدات المسموح باستخدامها خطورة لا تقل عن خطورة المحظورة، وتكمن خطورتها فيما يعرف بـ Pesticide residues متبقيات المبيدات، التي تبقى عالقة على الفواكه والخضار والحبوب، والتي تؤدي عند تناولها إلي عوارض صحية خطيرة على الإنسان، كالسرطان والفشل الكلوي.
لطالما طالعتنا الصحف بشكل شبه يومي عن أخبار التسمم الغذائي ومبادرة البلديات في إغلاق المطاعم، لكن ألا يحتمل أن يكون بعض المطاعم ضحية لمنتجات زراعية سيئة؟ أليس من المحتمل أنها تتبع نظاماً صارما في مسائل النظافة على الصعيد العمالي والمهني ورغم هذا وقعت في مأزق التسمم دون قصد؟ لماذا لم نسمع عن تقنية تتبع مصدر الضرر والتسمم؟ لماذا يتوقف الأمر عند إغلاق المطاعم وتغريمها؟
بعض الميكروبات تتسلل إلى المنتجات الطازجة وهي مازالت في المزرعة، وتزداد مستعمراتها أثناء مرحلة النقل والتخزين والتسويق، ويصل ضررها للمستفيد الأخير، وهذا الضرر ربما أنه خارج عن الإرادة، وليس في المستطاع اكتشافه والتنبؤ به، حتى وإن كان مطعماً شديد التحوط والاحتراز.
ومن تلك الميكروبات ؛ بكتيريا السالمونيلا انتيريكا Salmonella enterica التي كان يعتقد أنها لا تصيب إلا اللحوم والبيض فقط وليس لها علاقة بالمنتجات الزراعية الطازجة، لكن هذا الاعتقاد تم تفنيده على يد العالمة جيري باراك Jeri barak من مركز البحوث الإقليمية الغربية في كاليفورنيا في الولايات المتحدة، حيث أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك في دراسة حديثة أن السالمونيلا تصيب الطماطم وتنمو فيها مثلما تنمو في اللحوم غير المطهية بالشكل الجيد، وأنها تتّبع استراتيجية هجومية على الطماطم مختلفة بشكل كلي عن اللحوم، هذا الاستراتيجية تجعل من الصعب التخلص منها باتباع أساليب النظافة بالماء والصابون، لشدة تغلغلها داخل أنسجة النبات، وأوضحت الدراسة أن بكتيريا السالمونيلا استطاعات الولوج إلي الطماطم من خلال منطقة القطف، ولا يمكنها الولوج لها من أي جهة أخرى إلا إذا تعرضت للخدش أو الجروح، ولم تكتف الدراسة بهذا الحد، بل أكدت من خلال إحصائياتها أن الأمراض التي كانت تصيب الإنسان جراء تناوله الخضراوات الطازجة ارتفعت من 0.6 في المائة عام 1970م إلى 12 في المائة في أواخر التسعينيات الميلادية . (مجلة العلوم والتقنية - العدد 85).
هذه الدراسة لا تؤكد تبرئة المطاعم ولا تنفيها؛ إنما تشير إلى أن هناك عوامل أخرى للتسمم الغذائي غير الإهمال والتسيب، علينا التقصي عنها بكل حرفية، فربما أن المتسبب الحقيقي المزرعة أو السوق.
تنامي الطلب الاستهلاكي، ودخول الطابع التنافسي بين الشركات المنتجة للأغذية، وما يتبعه من إهمال وتهاون على صعيد الجودة والسلامة جراء السباق المحموم للظفر بالنصيب الأكبر في السوق جعل الأمن الغذائي على المحك، وأي تهاون من أي بلد في رقابة الإنتاج الغذائي من شأنه تقويض أمنه الغذائي، وبالتالي زعزعة السلامة والصحة العامة، لذا نرجو من أجهزة الرقابة في الدولة وعلى رأسها إدارة الغذاء والدواء إدراك المخاطر التي تهدد أمن المواطن الغذائي، وخاصة المنتوجات الزراعية الطازجة التي تحتاج لاعتماد إخضاعها لاختبارات الجودة والسلامة أسوة بالمنتجات المعلبة، سواء كانت محلية الإنتاج أو مستوردة، كما نرجو من وزارة الزراعة إخضاع المزارع للتفتيش المفاجئ بين الفينة والأخرى، والتأكد من نظامية استخدام المزارعين المبيدات والمعالجات الكيماوية، فسلامة الإنتاج الزراعي تعد الركيزة الأساسية للأمن الغذائي الوطني الذي ترتكن إليه الشعوب، وتنطلق منه لتحقيق الحياة الكريمة الآمنة المطمئنة.
عدد القراءات: 183
* "هذه المادة منتقاة من "الاقتصادية الإلكترونية" تم نشرها اليوم في النسخة الورقية"