محمد يونس يستعرض تجربة بنك الفقراء والتمويل متناهي الصغر

محمد يونس يستعرض تجربة بنك الفقراء والتمويل متناهي الصغر

«بنكنا أصبح يملكه الفقراء الآن لأنهم هم المساهمون، والأرباح هي للتكلفة ولتدوير المال للآخرين» .. بهذه العبارة يصف الدكتور محمد يونس الصورة الواقعية لبنك جرامين البنغلاديشي، حيث يؤكد ضرورة وجود مؤسسة مصرفية تعنى بتمويل الفقراء وتهتم بشؤونهم إلى جانب الأغنياء، مشيرا إلى أن الأغنياء هم من يتسببون في الأزمات البنكية المالية مقارنة بالفقراء الذين يحسنون التسديد بشكل مستمر.

ويُعتبر الدكتور محمد يونس من رواد التمويل متناهي الصغر وهو مؤسس بنك «جرامين البنغلاديشي»، الذي يقوم على تقديم القروض لأصحاب المشاريع الصغيرة جدا غير المؤهلين للحصول على القروض المصرفية التقليدية.

واستعرض محمد يونس تجربته في مكافحة الفقر في بنغلاديش خلال ندوة «تجربتي في محاربة الفقر» التي أقيمت ضمن النشاط الثقافي والفكري للمهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية»، حيث أعرب الدكتور محمد الجاسر محافظ مؤسسة النقد السعودي خلال تقديم الندوة عن سروره بمشاركة من وصفه بـ «مصرفي الفقراء»، مشيرا إلى إسهامه في مكافحة الفقر في بنغلاديش من خلال البنك الذي جعله مؤسسة تعليمية تسهم في تثقيف المستفيدين من القروض المقدمة لهم من جانب، وما يقدمه للمقترضين من تسهيلات من جانب آخر، إضافة إلى ما أسسه من مؤسسات تسهم في رفع دخول شريحة الفقراء وما تقدمه من حلول لمعالجة الفقر في بنغلاديش. وأضاف الجاسر أن يونس أسس بنك جرامين في بنغلاديش الذي يقوم على مبادئ الثقة والتضامن ومساعدة الفقراء على مكافحة الفقر عن طريق تعليمهم المبادئ المالية السليمة حتى يتمكنوا من مساعدة أنفسهم، وتقديم قروض بشروط مناسبة لهم، مشيرا إلى أن معدل استرداد القروض لدى البنك يتجاوز 98 في المئة من إجمالي القروض المقدمة، وأن الدكتور يونس حائز على جائزة نوبل للسلام العالمية لعام 2006، وجائزة يوم الاستقلال عام 1987 وهي أعلى جائزة في بنغلاديش، وجائزة آغا للعمارة في عام 1989م من سويسرا، وغيرها من الجوائز الدولية.

وأشار الدكتور محمد يونس في مستهل حديثه إلى ما كانت تعانيه بنغلاديش من أوضاع سياسية متردية ثم حصولها على الاستقلال، وذلك خلال فترة وجوده في الولايات المتحدة الأمريكية للتدريس، ثم عودته إلى بلاده بعد الاستقلال وما كانت تعانيه من أوضاع سيئة في كافة الجوانب الاقتصادية وصفها بالوضع الاقتصادي المعاق، وأشار إلى أن عودته كانت رغبة منه في المساهمة في تطوير الأوضاع الاقتصادية والتعليمية.

وقال يونس: ما زلت أتذكر استغراب البنغلاديشيين تجاه ما كنت أقوم به من إقراضهم دون مقابل في ظل ما كانوا يعانونه تجاه المصارف آنذاك، الأمر الذي جعلني في مهمة إقناع دائمة لهم بما أقدمه لهم، خاصة بعد أن التقيت عددا من أصحاب المصارف الذين يبررون ما يقومون به من عمليات إقراض لا يمكن أن تُقدَّم لشريحة الناس الفقراء. وذكر كذلك ما قام به من عمليات إقناع لعدد من المصارف أراد من خلالها إقناعهم بإقراض الفقراء وأن يكون كفيلا لكل من يقومون بإقراضه، في ظل سؤال مستمر من الناس عن هدفه من وراء ذلك تارة، وقدرته على ما قام به من خلال المصارف في الحصول على الموافقة تارة أخرى مع البنوك التقليدية التي لا تقرض إلا الأغنياء فقط، كما أشار إلى تركيزه على عمليات إقناع النساء والفتيات للحصول على قروض، حيث وضع بنك غرامين ضمن خطته أن يكون 50 في المئة من المقترضين نساء، واصفا ذلك بأنه كان مرحلة شاقة وصعبة لإقناع المرأة، لأنها لم تر النقود في حياتها ولم تتعامل بها نهائيا بل تعتقد أنه لا يحق لها حتى السؤال عن النقود .

وعن معارضة البنوك البنغلاديشية المحلية لتجربته قال إن المعارضة الأولى لم تأت من البنوك بل من المقرضين، إلى جانب الرجال الذين رفضوا أن تعطى الأموال للنساء، وكذلك المعارضة السياسية للفكرة التي كانت تسعى إلى حشد الفقراء لتكون قادرة على تنفيذ ما تريده من سياساتها، إلا أنها لم تستطع إيقاف التجربة لكونه صاحب حق خدمي اجتماعي يهدف إلى خدمة الناس دون إيثار النفس وإخفاء الأمور المالية عليهم من ربحية وسيطرة على مصادر الدخل الاجتماعي، مما جعلها تجربة ناجحة لتطبيقها خارج بنغلاديش في الهند، وحول الأرباح قال إن البنك يملكه الفقراء لأنهم هم المساهمون، والأرباح هي للتكلفة ولتدوير المال للآخرين، مشيرا إلى أن الضمانات زهيدة وميسرة فيما يفرضه من فوائد خاصة بالتشغيل مقابل وجود «27.000» موظف في فروع البنك، إلى جانب توفير الطرق الميسرة للسداد، وما يتخذه من إجراءات تجاه أصحاب الظروف الصعبة والمتوفين الذين يشملهم التأمين تارة والإعفاء تارة أخرى، مشيرا إلى أن البنك لم يغفل مجالا من مجالات الاستثمار في ظل إعطاء القرض وترك اختيار وجهة الاستثمار إلى المستفيد من القرض، وأن ثلاثة أرباع بنوك العالم لا تخدم طبقات الفقراء ولا تدعم نشاطهم، ووصف برامج ومبادرات بنوك المملكة بالمحدودة، حاثا المواطن السعودي على المبادرة لتلك البرامج والمثابرة في البحث عن فرص عمل عطفا على ما تتميز به السوق السعودية من فرص عمل كبيرة. وعرج يونس كذلك في حديثه على مسألة الإقراض مقابل الفوائد للطرفين ــ البنك والمقترض ــ عبر تجربة بنكية رائدة في معالجة الفقر بعيدا عن الرؤية التقليدية التي تزيد من معاناة الفقراء، موضحا أن البنك قام بإقراض أكثر من ثمانية ملايين مقترض بمعدل مئة مليون دولار شهريا في ظل تسديد متواصل من الفقراء يبلغ مليار دولار سنويا، إلى جانب ما عززته هذه القروض من فتح مجالات شاسعة للعمل، في ظل إعطاء قروض للمساكن وللأعمال التجارية الصغيرة وغيرها من الإيداعات للنساء الفقيرات التي تستثمر في 600 فرع للبنك، حيث يتم تدويرها بين الفقراء بشكل هادف مدروس لم يتعرض فيه البنك بكافة فروعه إلى خسارة تذكر، وهو ما أهل البنك للمساهمة في أنشاطة تنموية أخرى امتدت إلى تهيئة المدارس التعليمية المختلفة للطلاب الذين حصلوا على تعليم في عدة تخصصات مهمة مكنتهم من مواصلة الدراسة في الهندسة والطب وغيرهما، الأمر الذي أوجد حملة للشهادات العليا تخرجوا من أسر فقيرة جدا قام البنك بدعمهم.

ووصف محمد يونس دور البنوك عندما تأخذ على عاتقها دور الأعمال الاجتماعية في ظل حاجة المجتمعات الفقيرة إليها وما يعكسه ذلك على المستوى الفردي والجمعي صحيا وجسمانيا وفق تغذية صحيحة وخاصة للأطفال الذين هم في أمس الحاجة مقارنة بشرائح المجتمع الأخرى، مشيرا إلى عديد من المشاريع الإنمائية الاجتماعية التي قام بها البنك بدءا في القرى والهجر، كمشروع إنتاج الحليب، ومشروع معالجة مشكلة تلوث المياه، ومشروع إنتاج مواد القضاء على البعوض، وآخر لإنتاج الأحذية، قائلا إن ذلك كان بسبب رغبته في أن يستثمر الفقراء المساهمون في البنك ليستفيدوا من خلال تقديم الحليب للأطفال بسعر التكلفة، والأحذية أيضا بسعر التكلفة لأن كثيرا من الأمراض مصدرها الأقدام، إضافة إلى التلوث الذي تشهده المياه في بلاده الذي يعكس حاجة ماسة إلى مياه نظيفة.

وقال إن ذلك انعكس إيجابيا على الحياة الاجتماعية في ظل ما تم تقديمه من دور مصرفي شامل ينظر إلى الإنسان الفقير بعيدا عن الربحية، وأشار إلى أن هذا الدور المصرفي يحتاج إلى تصميم علمي وعملي يستظهر الواقع ويحقق من خلال هيكلة المصارف نتائج اجتماعية تستطيع أن تتجاوز كافة العقبات التي قد تعرقل مسيرتها وتقف عائقا أمام تحقق أهدافها، مؤكدا ضرورة الأخذ بأنظمة مصرفية عصرية تؤهلها على الارتقاء بالشرائح الفقيرة المستهدفة، وأهمية الرؤية الواضحة الواقعية الشمولية التي من شأنها أن تحقق مسيرة مصرفية قادرة على العطاء والاستمرار .

الأكثر قراءة