التورق المصرفي .. هل سينتهي الخلاف في هذه المسألة؟ (3)

لقد تم التعرض في المقالات السابقة إلى مسألة أوجه الشبه والاختلاف بين التورق المصرفي والتورق الذي يمكن أن نسميه التقليدي والذي تناوله الفقهاء بالتفصيل في كتبهم. والحقيقة أنه من المهم معرفة مدى تأثير هذا الفرق في الحكم على العقد. إذ إنه ليس على كل حال أن وجود بعض الفروقات في العقد يؤثر في الحكم عليه. كما أن وجود التشابه والمطابقة في التسمية ليست بالضرورة تعطي الحكم نفسه. العبرة في العقود - كما في القاعدة الفقهية - بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، ومن هنا نبدأ النظر والتدقيق في عقد التورق المصرفي، حيث إن طبيعة عقد التورق المصرفي قائمة على أن المؤسسة المالية تتملك بعض السلع بغرض تقديم التمويل، فهي لا تتملك بغرض الاستثمار على الإطلاق، وهذا هو الحال أيضا لدى العميل الذي يرغب في التمويل دون أي اهتمام بنوع السلعة.
والحقيقة أننا من خلال ملاحظة المراحل التي تم فيها انتشار هذا العقد من عام 2002، نجد أن هذا العقد أصبح يتطور ويتنوع، فأصبح في البداية مبنيا على التورق من خلال السلع الدولية ثم بعد ذلك أصبح بعض المؤسسات يقدمه من خلال السلع المحلية. ونجد أن بعض البنوك تمارس بيع هذه السلع بالنيابة من خلال توكيل العميل وبعضها يولي مسألة البيع إلى جهة أخرى مثل مكاتب المحاماة وغيرها. كل هل العمل بغرض تطبيق صيغة نموذجية لهذا العقد، تكون محل قبول لدى عامة العلماء، إلا أن هذه المحاولات ـ مع الأسف لم تثن المجامع الفقهية عن إصدار قرار بتحريم مثل هذا النوع من العقود، وانتقاد كثير من العلماء وطلبة العلم والمتخصصين هذا العقد. بل أصبح لمثل هذا العقد آثار سلبية على المجتمع حيث تضاعفت نسب القروض الاستهلاكية، وأصبح هناك إقبال على مثل هذا النوع من العقود من قبل الأفراد الذين لا يرغبون في الحصول على تمويل من خلال القرض بفائدة. ما أدى إلى تزايد نسبة مديونية الأفراد، وزاد ذلك في نمط سلوكهم الاستهلاكي الذي يؤدي في كثير من الأحوال إلى مزيد من الاستهلاك غير المرشد، وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه، يؤثر بشكل عام على مستوى المعيشة، وتتناقص معه فرص الادخار وبالتالي تقل فرص الحصول على الاحتياجات الأساسية مثل المنزل.
ولعلنا في قراءة لآلية عقد التورق المصرفي نجد أن هناك إشكالية في عملية حصول المصرف على المعدن أو السلع المحلية وكذلك عملية بيعها. إذ إن عملية البيع والشراء بشكلها الحالي تتم بالسعر نفسه في كل الأحوال، والمنطق يقول إن هناك تذبذبا في الأسعار لا تخلو منه أي سلعة من السلع مهما كانت، بل إن سعري العرض والطلب يكون دائما بينهما فجوة، ما يؤدي بالتالي إلى نتيجة حتمية وهي اختلاف سعر البيع عن الشراء ولو بفارق بسيط ملحوظ لدى المتعاملين. لكن الواقع يشهد بغير ذلك، ما قد يثير تساؤلا، وهو أن هناك احتمالا لوجود عقود أخرى مع مؤسسات مالية تتداول في السلع الدولية يتم من خلالها التزام هذه المؤسسات بشراء السلع بالسعر نفسه الذي اشترى به البنك، ويكون ذلك بطبيعة الحال مقابل رسم لهذه العملية، الذي يحتاج في حد ذاته إلى إعادة نظر.
أما فيما يتعلق بالسلع المحلية فإنه من خلال النقاش مع بعض المتخصصين فإنه لا يتم تحديد وتخصيص السلعة التي اشتراها العميل من البائع فهي وإن كانت كمية من الأسمنت مثلا فهو لا يعرف مكانها فضلا عن أن يحددها من كميات الأسمنت الكبيرة التي تتاجر فيها الشركة التي تتعامل مع البنك، فهو لا يدري مكان هذه السلعة فهي غير محددة على الإطلاق، وكما سبق فإن المنطق يقول إن هذه السلعة يمكن أن يتغير سعرها أيضا، سواء بالزيادة أو النقصان, خصوصا مع تقلب الأسعار في الفترة الماضية إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث على مستوى البيع والشراء الذي يتم بين العميل والبنك والجهة التي تشتري من العميل ـ بحسب ما وقفت عليه من معاملات ـ ولذلك هل يمكن أن يقال إن مثل هذا العقد يمكن أن ينجح من جهة قبول الفقهاء له شرعا؟
الحقيقة أنه لا يمكن أن يكون الحديث عن أن هناك مستحيلا في العمليات المالية, إذ إن كثيرا من العقود في المؤسسات المالية الإسلامية واجه النقد, لكن مع الوقت تحسن وضع هذه العقود لتصبح مقبولة لدى الفقهاء. لكن الحقيقة أنه خلال الفترة الماضية من تطبيق عقد التورق تمت ملاحظة أنه لا يشهد تحسنا في هيكله بل إن هناك إشكالات أخرى تمت لاحقا لهذه العملية ليتقارب هذا العقد كثيرا مع القرض بفائدة مع زيادة في المشقة والتكلفة، إذ إنه تم فرض غرامة للتأخير, وهذه فيها شبه بقول القائل, إما أن تقضي أو أن تربي – وإن كانت لا تشابهها على الإطلاق – وكون هذه الغرامات تصرف للجهات الخيرية، فإن هذا المال أخذ بغير حق من صاحبه، وفي الحديث ''لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه''، وذلك حتى إن كان على سبيل التبرع، إذ إن المؤسسات المالية ليست جهة سلطة لتفرض أي نوع من العقوبة حتى إن كانت هذه العقوبة تقتصر على الأمور المالية.
وبناء على ذلك وإن كان بالفعل قد يكون من الممكن تطوير هذا العقد ليكون فعلا متوافقا مع الشريعة إلا أن مسألة الإصرار عليه لا تضيف كثيرا إلى ما يجب أن تكون عليه المؤسسات المالية الإسلامية من دعم التنمية وابتكار المنتجات بعيدا عن الإطار الضيق الذي وضعتها فيه المؤسسات المالية التقليدية التي تعتمد عقد القرض بفائدة المحرم شرعا, خصوصا أننا نلاحظ الآثار السلبية لتطبيق هذا العقد - أي التورق المصرفي - خلال الفترة الماضية. وهذا يحتم علينا البحث في صور أخرى من التمويل والاستثمار، الذي يقدم إضافة إلى مفهوم المالية الإسلامية، الذي أصبح اليوم محل اهتمام عالمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي