مدينة يجب تقاسمها
حتى في الوقت الذي يسعى فيه الأمريكيون جاهدين إلى بدء محادثات جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تستغل الحكومة الإسرائيلية فترة التوقف هذه لتكثيف جهودها في إعادة تشكيل القدس الشرقية، التي يعدها الفلسطينيون عاصمتهم المستقبلية. وفي هذا الأسبوع، كشف عمدة المدينة الإسرائيلي، Nir Barkat، عن أحدث خطة له لتحويل المناطق الفلسطينية إلى حدائق للتراث اليهودي التوراتي. وخوفا من أن يتم صب نصف المدينة الخاص بهم في قالب يهودي على نحو متزايد، تشابك الفلسطينيون بالحجارة مع القوات الإسرائيلية في الحرم الشريف، الذي يقدسه المسلمون بسبب المسجد الأقصى، ثالث الحرمين الشريفين، الذي يبجله اليهود بوصفه موقع المعبد المقدس. وفي الوقت الذي يحاول فيه جورج ميتشيل، مبعوث باراك أوباما، فتح ''محادثات التقريب'' ثانية بين الجانبين، يفقد الفلسطينيون الأراضي بسرعة.
وخلافا لرؤساء الوزراء الإسرائيليين السابقين، الذين كانوا يبنون على قمم التلال المفتوحة فوق المراكز السكانية العربية في الضفة الغربية وعلى مشارف القدس، يركز بنيامين نتنياهو ومسؤولوه على المستوطنات اليهودية في وسطها. فمواقف السيارات ومناطق الحفاظ على البيئة، الغنية بالرموز الإسرائيلية، تنتشر في جميع أنحاء القدس الشرقية. ويفتتح المستوطنون الذين يتمتعون بحماية الدولة مدارس دينية هناك. ولا يكاد يمر أسبوع دون أن تعلن صحيفة إسرائيلية عن وحدات سكنية يهودية جديدة يتم بناؤها في المناطق العربية. وينقب علماء الآثار الإسرائيليون الأجزاء الشرقية من المنطقة العربية في المدينة بحثا عن الماضي اليهودي. وفي الشهر الماضي، أعلنت عالمة آثار أنها ''ربما'' وجدت أسوار مدينة الملك سليمان.
وداخل المدينة القديمة نفسها، بدأت شركة تنمية القدس الشرقية التابعة للحكومة الإسرائيلية بقطع الشريان الرئيس للفلسطينيين إلى المدينة القديمة، بسبب أعمال الصرف الصحي. ويقول Barkat إن المشروع سيحسن الخدمات، إلا أن الفلسطينيين يخشون أنه قد يكون نذيرا على عمليات تنقيب جديدة عن الآثار تهدف إلى فتح وصلات يهودية على طول طريق الحجاج إلى المعبد التي تسعى الجماعات اليهودية من اليمين المتدين إلى إعادة بنائها. ولتحقيق حلم اليهود في الألفية باستعادة المعبد، تقوم الشركة أيضا بإصلاح ما تقول إنه حمامات اغتسال قديمة.
وتحت حي المسلمين في المدينة القديمة، تقول الشركة إنها ستفتح وصلة الامتداد البالغة مساحتها تسعة آلاف متر مربع من المحاجر التوراتية هذا الصيف وقد تربطها بطرق أخرى تحت الأرض، ما يعطي الإسرائيليين والسياح إمكانية الوصول من أحد أطراف المدينة إلى الآخر دون الاضطرار للمرور بالمحال العربية أو محال الحلي التي يعتمد عليها عديد من التجار الفلسطينيين.
وعمليات الحفر تغذي مخاوف العرب بأن إسرائيل تقوض الأسس التي تم عليها بناء المناطق العربية، خاصة المسجد الأقصى, فهناك أجزاء من حي سلون، على المنحدرات الشرقية تحت المدينة القديمة، مدعومة بصورة خطرة على ركائز حديدية، لتسهيل التنقيب عن مدينة الملك داود القديمة، التي يقال إنها تكمن تحتها. وقد حولت إحدى الجماعات اليهودية التي تدعى Elad الموقع إلى ثالث أكبر موقع سياحي في إسرائيل وبدأت في وضع آثار تراثية يهودية عبر الوديان المجاورة.
حتى الآن، عدد المستوطنين الجدد في المناطق الفلسطينية صغير نسبيا. وباستثناء ثلاثة آلاف مستوطن، يعيش جميع المستوطنين في القدس، البالغ عددهم 200 ألف، في أحياء بعيدة تطوق المدينة ويتجنبون المناطق التي لا يزال الفلسطينيون يعيشون فيها، والبالغ عددهم 270 ألفا. إلا أن المتعصبين الذين يختارون الانتقال إلى المناطق العربية يجلبون معهم دعما مسلحا من الدولة الإسرائيلية. وجندت وزارة الإسكان المئات من رجال الأمن الذين تم منحهم، كما يقول أحد الحراس، سلطة الاعتقال أو إطلاق النار لحماية المستوطنين. ويتساءل أحد المستوطنين في منطقة عربية: ''ليس هناك قدس شرقية عربية. إنها اليوم يهودية بالكامل''.
هل يمكن للسلطة الفلسطينية، التي تدير دولة وليدة في الضفة الغربية، فعل شيء لإنقاذ عاصمتها المفترضة، باستثناء الصراخ بنبرة حزينة بأن ما يحدث ''سرقة''؟ لقد لاقت الجهود الرامية لإثارة الغضب الدولي نجاحا مختلطا, ففي العام الماضي، وبخت وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، Barkat على خطته بهدم المنازل العربية لإنشاء حديقة سياحية توراتية في الوادي تحت المدينة القديمة. وبسبب قلقه من إثارة الغضب الأجنبي إذا دخلت الجرافات إلى الداخل، طلب نتنياهو علانية من Barkat إبطاء العمل. إلا أن Barkat يبدو رابط الجأش.
والفلسطينيون ليسوا مجهزين بما يكفي لمنع هذا التعدي. وفي عام 1996، حين أصبح نتنياهو رئيسا للوزراء للمرة الأولى، أثار قراره بفتح نفق على طول مجمع الأقصى انتفاضة فلسطينية خلفت عشرات القتلى. ومنذ ذلك الحين، تضاءل النفوذ الفلسطيني في المدينة. وفي حين أن الفلسطينيين اعترضوا علانية أخيرا حين أضاف نتنياهو ضريحين في الضفة الغربية التي هي مقدسة بالنسبة إلى المسلمين واليهود على حد سواء في أحدث قائمة له للمواقع التراثية الإسرائيلية، إلا أنهم لم يتحركوا حين شمل مدينة داود، التي هي في القدس الشرقية.
وأحد أسباب عدم جدوى المعارضة الفلسطينية هو الحاجز الأمني الإسرائيلي الذي يقتطع من الضفة الغربية ويمر عبر أجزاء كبيرة من القدس الشرقية. فهو يمنع معظم المسلمين من الضفة الغربية من الوصول إلى الأماكن المقدسة في المدينة، كما قسم مناطقها العربية إلى نصفين، تاركا عشرات الآلاف من السكان العرب على الجانب الخاطئ. ولإعاقة وصولهم بصورة أكبر، لا تضيء إشارات المرور باللون الأخضر إلا لفترة وجيزة للسيارات الآتية من المناطق الفلسطينية في حين تظل خضراء لعدة دقائق للسيارات الآتية من المستوطنات اليهودية. وتجرد وزارة الداخلية الإسرائيلية عددا أكبر من أي وقت مضى من الفلسطينيين من القدس الشرقية من وثائق الإقامة. وفي عام 2008، خسر نحو 4600 منهم هذه الوثائق، أي أكثر بعشرين ضعفا عن المتوسط في السنوات السابقة.
وبعد أن تم اقتلاعها من المدن التي تغذيها في الضفة الغربية، وهي رام الله وبيت لحم، تبدو القدس الشرقية العربية في الليل مثل مدينة أشباح غارقة في الإهمال. والسلالم على تلال سلوان مسار صعب وعقبة كبيرة. والشوارع متكسرة ومليئة بالقمامة. ولم تعد الإنارة في الشوارع تعمل منذ فترة طويلة. ويمر رجال الدرك الإسرائيليون بمركباتهم العسكرية خلالها، إلا أنه يطلب أحيانا من سيارات الإسعاف الإسرائيلية عدم المغامرة بالدخول إلى المناطق الفلسطينية للاستجابة لمكالمات الطوارئ. والمقابر اليهودية على الجانب الشرقي نظيفة في حين أن المقابر الإسلامية على الجانب الغربي مقفرة.
ويقول البعض إن بيل كلينتون، حين كان يتفاوض بصفة رئيس في أواخر التسعينيات، أسهم عن غير قصد في تسريع التعدي الإسرائيلي. فقد قال: إن ما هو يهودي سيظل يهوديا، وما هو عربي سيظل عربيا. وبدلا من تعزيز الحالة الراهنة، ربما حفزت كلماته إسرائيل لإقامة ''حقائق على الأرض'' قبل أن يدعو شخص ما إلى فترة توقف أو تبدأ المفاوضات من جديد