نهاية الانقلابات

نهاية الانقلابات

على الرغم من القصص المحمومة التي تتحدث عن مؤامرت لتنفيذ انقلابات، إلا أن الجيش التركي أصبح أقل احتمالا للتدخل في السياسة. ويعد هذا تقدما وتستهدف القنابل المصلين في أكثر مساجد أسطنبول ازدحاما؛ ويتم إسقاط طائرة تابعة لسلاح الجو التركي فوق بحر إيجة، ما يثير حربا مع اليونان، وتسود الفوضى في تركيا، ويتدخل الجيش للإطاحة بحزب العدالة والتنمية الإسلامي المعتدل الذي يحكم تركيا منذ 2002، ويتولى زمام الأمور.
وقد تم فضح هذه الخطة، التي يطلق عليها اسم ''المطرقة''، والمخبأة بين خمسة آلاف صفحة من وثائق الجيش، في كانون الثاني (يناير) من قبل صحيفة صغيرة مستقلة، تدعى Taraf، وأثارت عاصفة كبيرة. وقال الجيش إنها مجرد ''تمرين محاكاة''. إلا أن الجنرال Ikler Basbug، رئيس أركان الجيش، تساءل غاضبا: كيف يمكن للجنود الأتراك، الذين يدخلون إلى المعارك وهم يصرخون ''الله، الله'' أن يقصفوا مسجدا؟ ويحاول المدعون المدنيون والعسكريون الآن الإجابة عن هذا السؤال.
إن خطة ''المطرقة'' ليست سوى أحدث حلقة من مسلسل مؤامرات الانقلاب المزعومة التي تم فضحها في السنوات الأخيرة. ويساعد هذا على تفسير سبب قيام الحكومة التركية في الرابع من شباط (فبراير) بإلغاء البروتوكول العام والأمني Emasya، الذي يسمح للجيش باتخاذ قرار بتولي زمام الأمور في المقاطعات التي ينهار فيها القانون والنظام. ويقول المنتقدون إن الهدف الحقيقي من Emasya هو توفير الإطار القانوني لأي انقلاب مستقبلي.
لقد تلطخت صورة الجيش بصورة كبيرة، ويتم الآن التشكيك بدوره. فهل يتلاشى نفوذه بلا رجعة مع تحول تركيا لتصبح دولة ديمقراطية غربية كاملة؟ أم هل هذا فقط أحدث تطور في المعركة الطويلة بين النخبة، المكونة من الجنرالات والحرس القديم المعتادين على احتكار الثروة والسلطة، وبين الطبقة الناشئة من الأناضوليين المتدينين، الذين يجسدهم حزب العدالة والتنمية؟
الإجابة عن هذا السؤال مهمة، ليس فقط بالنسبة للأتراك، فتركيا تعد محورا استراتيجيا بين أوروبا والشرق الأوسط. ويبلغ عدد سكانها الكبير والمتزايد 72 مليون نسمة. ومن المتوقع أن تصبح نقطة عبور رئيسية للنفط والغاز من الشرق. ولديها ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، بعد الجيش الأمريكي. وهي مثال نادر على الديمقراطية العلمانية في دولة ذات أغلبية مسلمة، تراقبها عن كثب ديمقراطيات أخرى، مثل الباكستان وإندونيسيا، التي لديها جيش قوي.
وهنا تكمن المعضلة. فلطالما اعتبر الجيش التركي حامي الجمهورية العلمانية التي تم تأسيسها منذ 86 عاما على يد كمال أتاتورك. وعلى الرغم من مشكلاته في الآونة الأخيرة، إلا أنه لا يزال أكثر المؤسسات الموثوقة التي تحظى بالشعبية في الدولة (على الرغم من أن مستويات تأييده تنخفض إلى مستويات غير مسبوقة)، إلا أن تدخل الجنرالات المستمر في السياسة والخطوط الحمراء التي يبدو أنهم يرسمونها حول بعض المواضيع الشائكة - مثل قبرص أو الأكراد - هي من بين أكبر العقبات التي تمنع تركيا من أن تصبح ديمقراطية كاملة. وقد تم وضع دستور تركيا من قبل الجيش قبل 30 عاما؛ وهو بحاجة ماسة إلى إعادة كتابته، والقضايا التي يتعنت فيها الجيش هي تلك التي تفسد فرص تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

دولة موازية
لقد نفذ الجيش ثلاثة انقلابات منذ عام 1960، حين شنق أول رئيس وزراء للدولة تم انتخابه بحرية، وهو عدنان مندريس، وأنشأ مجلس الأمن القومي، وأسس محاكم خاصة به. ويوضح Umit Kardas، المدعي العام السابق في الجيش: ''لقد قاموا بإنشاء دولة موازية''، وعزز الجنرالات سلطتهم بعد انقلاب عام 1980 عن طريق وضع دستور استبدادي لا يزال ساري المفعول.
وفي عام 1997، أسقط الجنرالات أول حكومة إسلامية في الدولة، على أساس مشكوك به بأنها كانت تسعى لإدخال قانون الشريعة، وجاء هذا ''الانقلاب في الفترة ما بعد الحداثة'' بعد حملة متواصلة نفذها الجنرالات وأصدقاؤهم في الإعلام والأعمال. وفي عام 2007، هددوا بالتدخل ثانية، وفعلوا ذلك هذه المرة عبر الإنترنت، حيث نشروا تصريحا على الموقع الإلكتروني لموظفي الدفاع يعترضون فيه على أن يصبح عبد الله غل، الذي كان حينها وزير خارجية تركيا، رئيسا للدولة. ولم يكن يعجبهم أن زوجة غل ترتدي الحجاب، المحظور ارتداؤه في مؤسسات الدولة بصفته رمزا للأصولية الإسلامية.
وتبين أنهم أساءوا تقدير الأمور في هذا ''الانقلاب الإلكتروني''. فقد دعا رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء، إلى انتخابات مبكرة، وفاز حزب العدالة والتنمية بفترة رئاسة ثانية وحصل على نسبة أكبر من الأصوات (47 في المائة)، وأصبح غل رئيسا للدولة. ويشير دبلوماسي من الاتحاد الأوروبي في أنقرة: ''حاول الجيش إملاء إرادته ورفض الشعب ذلك - وما حدث بعد ذلك يثبت أن الجيش بدأ بفقدان سلطته''. وفي عام 2008، دعم الجنرالات ضمنا المدعي العام للدولة، Abdurrahman Yalcinkaya، حين حاول إقناع المحكمة الدستورية بحظر حزب العدالة والتنمية بتهمة واهية وهي أنه يسعى إلى عكس الحكم العلماني، وحكمت المحكمة الدستورية ضد الحظر، وإن بأغلبية ضئيلة. وتقاوم الحكومة الهجمات منذ ذلك الحين، وعلى مدى العامين الماضيين، انكشف كثير من مؤامرات الغش المزعومة للجيش، وتم استجواب أو اعتقال عشرات الضباط، بمن فيهم جنرالات متقاعدون، فيما يتعلق بقضية Ergenekon، التي سميت على اسم شبكة غامضة من المارقين من ضباط الأمن والأكاديميين والصحافيين ورجال الأعمال. ويتهم المدعون العامون الشبكة بالتخطيط لإثارة الفوضى من خلال سلسلة من الاستفزازات الدموية، ما يبرر بالتالي الانقلاب ضد حزب العدالة والتنمية، إلا أن الأدلة لم تكن دائما مقنعة، وتم توريط بعض الأبرياء في ذلك، واعتقال كثير منهم لأشهر دون تهمة. ويصر الجنرالات على أن Ergenekon هي جزء من حملة تشويه بقيادة فتح الله غولين، رجل الدين الإسلامي المعتدل الذي يترأس أغني وأقوى جماعة إسلامية في تركيا. ومن المعروف أن هذه الحركة، التي تنبذ العنف وتتبنى الرأسمالية، روضت الإسلام في تركيا، إلا أن الجنرالات يعتقدون أن غولين وأتباعه يوجهون تركيا نحو الحكم الإسلامي. وكانت إحدى مؤامرات الانقلاب المزعومة للجيش تنطوي على زرع أسلحة في منازل أتباع غولين في محاولة لتشويه سمعتهم.
وليس الميل للانقلابات فقط هو ما يشوه صورة الجيش، فقد أثارت سلسلة الهجمات الدموية التي شنها في الآونة الأخيرة حزب العمال الكردستاني الانفصال تساؤلات حول براعة الجيش في هذا المجال. وزادت هذه التساؤلات حين نشرت صحيفة Taraf وثائق تقول إنها تثبت أن الجيش كان لديه تحذير مسبق من هجوم حزب العمال الكردستاني الذي تم تنفيذه عام 2007 في Daglica، الموقع النائي على حدود تركيا مع العراق. وأثارت هذه المعلومات الغضب، كما أثارت أسئلة كانت من المحرمات في السابق حول الأنشطة العسكرية لتركيا. ويشير Ali Bayramoglu، الأكاديمي الليبرالي: ''حتى وقت قريب، كان فقدان ابن في الخدمة يعد وسام شرف. ولكن للمرة الأولى، يشكك الشعب التركي علانية بفضائل الحرب''.
لقد أدت قضيتا Ergenekon و Daglica إلى فقدان مكانة الجيش، إلا أن ما يضعف سلطته هو الإصلاحات الموجهة من قبل الاتحاد الأوروبي، ولعل هذا يفسر سبب تردد الجنرالات فيما يتعلق بهدف الانضمام للاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنهم يعبرون عن تأييدهم لذلك.

البذلات أم البزات العسكرية
بدأت الإصلاحات بشكل حثيث عام 2002، حين شكّل حزب العدالة والتنمية أول حكومة من حزب واحد في تركيا منذ 17 عاما. وفي كانون الثاني (يناير) 2004، تم تقليص مجلس الأمن القومي، الذي كان الجنرالات يفرضون وجهات نظرهم من خلاله، ليصبح مجرد هيئة استشارية. وفي إحدى أكثر الخطوات دموية، أقرت حكومة حزب العدالة والتنمية تعديلا دستوريا العام الماضي يمهد الطريق لمحاكمة الضباط في محاكم مدنية.
وربما يكون الجنرالات قد سقطوا، ولكنهم لم يخرجوا من الصورة بأي حال من الأحوال. فقد تم إسقاط التعديل الذي يقضي بمحاكمة الضباط في محاكم مدنية من قبل المحكمة الدستورية في كانون الثاني (يناير). والقول بأن سلطة الجيش آخذة في التلاشي يشير إلى ''افتراض تقدم خطي، يتقدم فيه كل من الديمقراطية والسياسيين''، كما يعلق المحلل البريطاني William Hale؛ ويضيف أن هذا ليس صحيحا تماما.
وفي الحقيقة، يكون الجيش قويا كلما كانت الحكومة المدنية ضعيفة، أو حين يقترب الخطر. ويخشى كثيرون أن يتصاعد التوتر بين الأتراك والأكراد إلى اضطرابات من النوع الذي قد يبرر تدخلا آخر من قبل الجيش، وهناك عقبة أخرى، فقانون الخدمة الداخلية للجيش يسمح له بالتدخل للدفاع عن العلمانية و''الوحدة التي لا تتجزأ للدولة'' حين تكون في خطر- من الانفصاليين الأكراد مثلا. وعلى الرغم من أن الجنرال Basbug أيد إلغاء Emasya، إلا أنه أوضح أنه لا يجب المساس بوسيلة الحماية الأخيرة هذه. ولم يتم بعد تلبية مطالب الاتحاد الأوروبي بأن يكون الجنرالات مسؤولين أمام وزارة الدفاع، بدلا من أن تكون الوزارة مسؤولة أمامهم. ويقول الجنرال المتقاعد Armagan Kuloglu ساخرا: ''فليخضعوا الجيش إلى وزارة الرياضة إذا كانوا يريدون ذلك، فالجيش سيفعل ما يتعين عليه القيام به في النهاية''. ويقول المحلل العسكري، Lale Kemal، إن ''السيطرة المدنية على الجيش ستظل حلما بعيد المنال إلى أن يتم استبدال الدستور''. وقد تعهد أردوغان باستبدال الدستور، ولكن يشتبه على نطاق واسع أنه يعقد الصفقات مع الجنرالات وراء الكواليس.
إن المشاجرات بين جنود تركيا وحكامها المدنيين ليست أمرا جديدا. ففي عام 1908، شن ''الشباب الأتراك'' أول انقلاب حديث ناجح حين أطاحوا بالسلطان المستبد عبد الحميد الثاني. وتمت الإشادة حينها بالجيش بوصفه قوة من أجل التحديث. ووفر هذا أيضا الدعم للجماهير الريفية لكي تتسلق السلم الاجتماعي.
ولكن لم يتم تمجيد الجيش إلا بعد أن أنقذ أتاتورك تركيا من تقطيع أوصالها على يد الحلفاء الغربيين بعد الحرب العالمية الثانية. ويعتقد ملايين الأتراك أنه لولا أتاتورك والجيش، لن يكون هناك تركيا اليوم. وتترسخ هذه المشاعر خلال الخدمة العسكرية التي تدوم 15 شهرا، وهي إلزامية لجميع الرجال الأتراك. وأحد أسباب شعبية الجيش أيضا هو نظام التعليم الذي يقضي أن ''كل تركي يولد جنديا''.
وبالنسبة لملايين الأتراك العلمانيين، لا يزال الجيش الضامن الوحيد لأسلوب حياتهم المتحرر. ومن المفترض أن يكون حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، الذي أسسه أتاتورك، من أشد المؤيدين للتغييرات التي تؤهل الدولة للانضمام للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، عارض كثير منها، على الرغم من أن عضوية الاتحاد الأوروبي، وليس الجيش، هي التي توفر أفضل حماية ضد الإسلام المتطرف.
وبما أنه ليس لدى حزب العدالة والتنمية منافسون ذوو مصداقية حتى الآن، فقد يفوز بفترة رئاسية ثالثة عام 2012. وقد يمنح هذا مجالا أكبر لما يصفه المنتقدون بميل أردوغان نحو الحكم الاستبدادي. وهجماته ضد صحف المعارضة وتردده في تغيير القوانين التي تمنع الأحزاب الأصغر (أي الكردية) من دخول البرلمان عززت هذه الصورة. ويقول Eric Edelman، السفير الأمريكي السابق إلى تركيا: ''ربما يشعر المرء بالارتياح بسبب فقدان الجيش للسلطة إذا كان لدى تركيا نظام سياسي متوازن مع احتمالية تغيير الحكومة''.
وخلافا للسياسيين الفاسدين الذين أساءوا إدارة الدولة لفترة طويلة، ''لا يمثل الجيش التركي مصالح ضيقة. فهو يستمد شرعيته من الشعب، فهو قوة وطنية بحق'' كما يقول Mesut Yegen، عالم الاجتماع في جامعة Middle East Technical في أنقرة. وربما يفسر هذا السبب في كون جنرالات تركيا يسلمون دائما السلطة للمدنيين بعد الانقلابات. ولكن على الرغم من حديثه عن أنه الشعب، ''يعتقد الجيش أنه يعرف الأفضل للشعب،'' كما يقول Kardas. وغالبا ما يكون الجنود بعيدين، إما في ثكناتهم أو في النوادي ومخيمات العطلات. ويقول Senol Azbek، المقدم المتقاعد: ''كنا نعيش في عالم سريالي كان يضطر فيه الضباط الذين يريدون الحصول على ترقية إلى شرب الخمر ورقص الفالس''.

جنرال عصري جدا
إذا كان الجيش التركي بدأ يتخلص من إدمانه على التدخل في السياسة، فإن الفضل في ذلك يعود جزئيا إلى الرجل في المنصب الأعلى. فالجنرال Basbug، الذي اشتهر بصرامته في أوائل التسعينيات في ذروة التمرد الكردي في جنوب شرق تركيا، علماني متشدد جدا. ولكنه يدرك جيدا أن نفور الجيش الواضح من الإسلام أسهم في تراجع شعبيته.
ويفهم الجنرال دور الجيش بصورة أفضل من بعض من سبقه. ووفقا لـ Edelman، فإن تجارب Babsug حين كان طالب ضابط خلال انقلاب عام 1960 أقنعته أنه ليس هناك مكان للجيش في السياسة التركية. ولم يسبق أن ارتبط اسمه بأي من مدبري الانقلاب المزعومين. وهو يقول إنه عازم على اجتثاثهم. ويبدو أن بعض جنوده يقتدون به؛ ويقال إنهم وراء عديد من مؤامرات الانقلاب المزعومة التي تم تسريبها. ويقول Mehmet Baransu، الصحافي في Taraf الذي نشر قصة خطة المطرقة: ''بعضهم أتباع غولين إلا أن عديدا منهم مثاليون يؤمنون بأن على الجيش الابتعاد عن السياسة''.
وقد بدأت مثل هذه المواقف بالانتشار في جميع أنحاء تركيا، وما ساعد على ذلك قوى العولمة والإنترنت في دولة نصف سكانها أقل من 29 عاما. وفي كل ليلة ثلاثاء، يتجمع ملايين الأتراك حول الشاشة لمشاهدة مسلسل جديد يدعى ''هل سينساك هذا القلب''. ولولا المؤامرات الرومانسية، لكان المرء يظن أن هذا البرنامج هو برنامج وثائقي عن انتهاكات الجيش خلال انقلاب عام 1980. وأظهرت الحلقات الأخيرة مشاهد تعذيب في السجن المعروف في ديار بكر. ويقول Salih Sezgin، النزيل السابق به: ''كان الجنود يقحمون الهراوات في فتحة الشرج ويتبولون علينا ويجبروننا على أكل الفئران الميتة''. وحتى وقت قريب، لم يكن من الممكن بث مثل هذا المسلسل.
وفي عام 1909، ألقى أتاتورك خطابا أمام الشبات الأتراك، وقال: ''لا يجب على زملائنا في الجيش الاشتغال في السياسة بعد الآن. بل عليهم توجيه كل جهودهم لتقوية الجيش بدلا من ذلك''. وبعد أكثر من 100 عام، ربما تكون الرسالة قد وصلت أخيرا

الأكثر قراءة