إهدار فرصة

إهدار فرصة

كان الطريق إلى الأمام يبدو واضحا قبل عام من الزمن. أولا تكديس عجز كبير في الميزانية لتعويض الطلب الخاص الذي تراجع في فترة الركود. ثم التحول بذكاء، حين انتعش الاقتصاد، إلى تخفيض العجز، لمنع أسواق السندات المتوترة من رفع أسعار الفائدة وخنق الانتعاش الوليد. ولم يضيع الفريق الاقتصادي لباراك أوباما الوقت للبدء على هذا المسار. فبعد وقت قصير من توليه الرئاسة، وافق الرئيس على رزمة حوافز لمدة عامين بقيمة تقارب 787 مليار دولار، والتي قدرت الإدارة أنها ''ستنقذ أو توجد'' نحو 3.5 مليون وظيفة. ومع الحوافز، توقع البيت الأبيض أن يبلغ معدل البطالة ذروته إلى نحو 8 في المائة. وبدلا من ذلك، زاد معدل البطالة إلى 10 في المائة عام 2009، وسيظل عند هذا المستوى وفقا لتوقعات الإدارة في معظم أوقات عام 2010.
وقد أحرج هذا الأداء السيئ بصورة غير متوقعة الرئيس ووضعه في موقف ضعيف. ففي الوقت الذي كان من المفترض أن يحول اهتمامه نحو تخفيض العجز، يواجه الآن سوق عمل أضعف بكثير مما كان متوقعا في كانون الثاني (يناير). وفي الوقت نفسه، أضر الضعف الاقتصادي بموقف الدولة المالي بصورة أكبر. وسيزيد العجز عام 2010 إلى 10.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بعد أن كان 9.9 في المائة العام الماضي. ويتوقع أن تبلغ حالات العجز بين الآن وعام 2020 أكثر من عشرة تريليونات دولار. وهذا يعني الكثير من سندات الخزانة لبيعها.
وهكذا يقع على عاتق أوباما صياغة ميزانية، وأجندة منقحة للسياسة المحلية، مع وضع هدفين متعارضين في الاعتبار- الحفاظ على دعم كاف للاقتصاد الضعيف، وإيجاد إطار موثوق لاستدامة الميزانية. وقد نجح في تحقيق الأول إلى حد كبير، حيث أضاف المزيد من الحوافز هذا العام والعام المقبل لتخفيض العجز إلى 10.6 في المائة و 8.3 في المائة على التوالي. ولكنه فشل في تحقيق هدفه بالاستدامة في الأجل المتوسط.
ومن المرجح أن إضافة المزيد من الحوافز أمر ضروري: تم وضع رزمة العام الماضي بناء على ركود أقل حدة من الركود الذي عانت منه أمريكا فعليا. ومع صعوبة تحقيق مجلس الاحتياطي الفيدرالي لسعر الفائدة المستهدف مقابل الحد الأدنى البالغ صفر في المائة، كان التوسع المالي الإضافي مبررا. وعلى المدى القصير، لا يزال الخطر الرئيس على الاقتصاد هو التراجع السريع جدا للدعم الاقتصادي الحكومي. ويريد أوباما مجموعة حوافز إضافية تستهدف الوظائف. وستضيف الميزانية 98 مليار دولار إضافي زيادة على الحوافز المخططة أصلا والبالغة 404 مليارات دولار لبقية هذا العام. وتشكل توسيعات السياسة الحالية، بما في ذلك توسيع إعانات البطالة وتقديم المزيد من المساعدة للأشخاص الذين يفقدون تأمينهم الصحي حين يفقدون وظائفهم، معظم هذه الحوافز الإضافية. واقترحت الإدارة أيضا برنامج ائتمانات ضريبية بقيمة 33 مليار دولار لأصحاب العمل، حيث يتم توفير ائتمان بقيمة خمسة آلاف دولار لكل عامل جديد يتم تعيينه وتعويض نفقات الرواتب المتزايدة للشركات التي تزيد الأجور أو ساعات العمل. وفي ميزانية الرئيس، تمتد العديد من هذه السياسات إلى عام 2011، مما يزيد 147 مليار دولار أخرى على العجز المتوقع لذلك العام- بما في ذلك التمديد لمدة عام الائتمان الضريبي المفضل لدى أوباما، أي ''دع العمل يدر عليك ائتمان ضريبي''. وفي مجالات أخرى، اقترح أوباما مجموعة من التغييرات الضريبية التي تهدف إلى دعم الشركات الصغيرة.
إن زيادة الإنفاق على التدابير المؤقتة لإيجاد الوظائف عام 2011 أمر منطقي، بما أن تأثير الحوافز سيتراجع وأسواق العمل ستظل ضعيفة. ولكن بحلول عام 2012، سيصبح الخطر الذي تشكله حالات العجز أكثر جدية. وسيظل العجز السنوي أعلى من 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وسيتجاوز الدين العام 70 في المائة من الناتج. ومع استمرار الخسائر المالية، قد تصبح أسعار الفائدة المتزايدة خطرا يهدد استمرار الانتعاش. ولعل من الحكمة أن يجد أوباما موارد لإيجاد فرص العمل عن طريق تقليص التبديد في مجالات أخرى. وإذا وضعنا مصدر القلق هذا جانبا، فإن هذه الميزانية توفر الدفعة اللازمة لسوق العمل بتكلفة مقبولة لصورة الميزانية على المدى القصير. ولكن قد لا تنجو أي من خطط أوباما من التدقيق من جانب الكونجرس، خاصة الكونجرس الذي بدأ فيه الديمقراطيون يفقدون سيطرتهم عليه. وصورة الميزانية على المدى الأطول أكثر كآبة. وقد كان تحدي الرئيس لميزانية عام 2011 واضحا - البدء بالدفعة نحو استقرار العجز على المدى المتوسط، مع استهداف إصلاح الميزانية على المدى الطويل. وفي هذا المجال لم يحقق هدفه على الإطلاق.
ومن المخطط إجراء تخفيض كبير في العجز- من 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 5 في المائة بحلول 2015- من خلال الميزانية، بناء على الانتعاش الاقتصادي المأمول وإنهاء الحوافز. ولا بد من اتخاذ القرارات الصعبة في مجال التخفيض من 5 في المائة إلى 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وكان أوباما يأمل تحقيق معظم هذا التخفيض من خلال النمو الاقتصادي وإصلاحات نظام الرعاية الصحية. والآن، يبدو إقرار أي مشروع قانون يتعلق بالصحة مشكوكا فيه إلى درجة كبيرة، إلا أن هذا لم يمنع الإدارة من كتابة 150 مليار دولار في مدخرات الرعاية الصحية على مدى عشر سنوات في ميزانيتها. ويشك الكثير من المحللين فيما إذا كانت تلك المدخرات قد تحققت بالفعل. وحتى لو سارت الأمور على ما يرام، بأعجوبة، سيكون الناتج العام من العمل التشريعي المنهك نحو 1.5 في المائة من إجمالي العجز في الأعوام 2010/20، أي قطرة في محيط.
ويوفر الاقتراح بتجميد الإنفاق التقديري على بنود ''غير أمنية'' لمدة ثلاثة أعوام تخفيض بقيمة 250 مليار دولار. إلا أن السياسيين من كلا الحزبين في الكونجرس اشتكوا بشأن استثناء وزارة الدفاع من ذلك. وسيضيف الإنفاق التقديري على الدفاع 284 مليار دولار على العجز خلال الفترة نفسها.
وتخفض ميزانية أوباما حالات العجز المتوقعة بين الآن وعام 2020 بمقدار يزيد على تريليوني دولار، بصورة رئيسة من خلال تخفيضات في الإنفاق المقرر على العمليات العسكرية في الخارج والتغييرات الضريبية المقترحة. ويخشى الآن من أن لا تصمد العديد من التغييرات الضريبية الموصى بها. ومن المرجح أن يظل ما يسمى رسوم مسؤولية الأزمة المالية (المسمى ضريبة البنوك)، إلا أنه تم اقتراح البنود الأخرى، بما في ذلك إصلاح النظام الضريبي الدولي وإلغاء إعانات الوقود الأحفوري، العام الماضي وفشلت في المرور من الكونجرس. ومن المتوقع أن تحقق إجراءات زيادة الضرائب على الأسر ذات الدخل الأعلى (تلك التي تجني أكثر من 250 ألف دولار سنويا) نتائج أفضل، إلا أن قرار الحفاظ على التخفيضات الضريبية للجميع التي وضعها بوش تعد قصيرة النظر.
وإذا رفض الكونجرس، كما هو متوقع، بعض الأحكام الضريبية، سيتبين حينها أن حالات العجز أكبر من تلك التي تضمنتها الميزانية. ولكن حتى مقترحات الرئيس لم تخفض حالات العجز إلى النسبة المستهدفة البالغة 3 في المائة. ولتعويض هذا الفارق، سيشكل أوباما لجنة معنية بالعجز بموجب أمر تنفيذي، مكلفة بتقديم توصيات لتحقيق استدامة الميزانية على المدى الطويل. إلا أن الكونجرس فشل في السابق في إقرار اقتراحه الخاص بتشكيل لجنة من الحزبين معنية بالعجز، والتي كانت على الأقل ستتمكن من تنفيذ تصويت بالرفض أو القبول لتوصياتها. ومن المثير للسخرية أن الجمهوريين الذين أشادوا بالفكرة تراجعوا حين عبر الرئيس عن تأييده لها. وحتى قبل هزيمته، كان مجلس الشيوخ قد صوت بنسبة 97-0 لاستثناء الضمان الاجتماعي من صلاحيات اللجنة.
إن تجنب الكونجرس اتخاذ القرارات الصعبة عقبة لا يستهان بها بالنسبة للرئيس. إلا أن أوباما لم يساعد نفسه حين تنصل من القرارات الصعبة المتعلقة بالميزانية التي لا بد من اتخاذها في النهاية. وقد يكون ذلك فشلا مكلفا. وأمام الحكومة الأمريكية مجال للاستمرار في دعم الاقتصاد الضعيف، ولكن فقط طالما كانت الأسواق تعتقد أن الولايات المتحدة ستفي بالتزاماتها. وفي هذه الميزانية المقترحة، لم يفعل أوباما شيئا لطمأنتها

الأكثر قراءة