نظام يعقوبي ينتقد مشايخ تحريم التورق المنظم ويطالب مجمع الفقة الإسلامي بمراجعة آلياته
التورق المنظم قضية فقهية أخذت مدى واسعا من النقاش والحوار والخلاف بين فقهاء الاقتصاد الإسلامي، وأكدت مصادر متخصصة في صناعة المال الإسلامية أن هناك خلافات داخلية، كانت في الأروقة الداخلية، لكنها بدأت تتسرب للعلن، بين مجموعة من الفقهاء البارزين، وذلك بعد أن انقسموا إلى قسمين؛ مؤيد لتحريمه، انسجاما مع قرار مجمع الفقه الإسلامي، ومجيز له خلافا لذلك، كما أن بعض المصادر المصرفية الغربية تشير إلى وجود ضغوط خارجية تمارس على صناعة الصيرفة الإسلامية وفقهائها بشأن منتج التورق، ولم تقدم تلك المصادر تفاصيل أكثر حول نوعية هذه الضغوط.
هذا وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي فتوى بتحريم التعامل بالتوريق المنظم، في حين هناك من يعارض هذه الفتوى ويرى جواز التعامل بالتوريق، ومن أهم المدافعين عن ذلك الشيخ نظام محمد صالح يعقوبي، الفقيه البحريني, الذي يعد المصرفي الأول على مستوى العالم بحسب تصنيف مؤسسة Funds@Work الاستشارية.
وكان يعقوبي الحاصل على شهادة الماجستير من جامعة ماك جيل، في مونتريال بكندا في الاقتصاد ومقارنة الأديان, قد فجر مفاجأة خطيرة ومهمة عندما أكد، بحسب وسائل الإعلام الماليزية، أن الـ 17 بحثاً التي قامت عليها فتوى التحريم الصادرة من مجمع الفقه تكشف في حقيقتها عن إجازة هذا المنتج بدلا من تحريمه، يقول يعقوبي خلال تبيينه الطريقة السريعة التي توصل إليها المجمع في قرار التحريم: "إذا كان هناك بحث تم إعداده على عجل وقُدِّم إلى المؤتمر قبل ساعة واحدة من انعقاد الجلسة، فكيف يستطيع الحاضرون قراءته؟ لاحظ أنه كان هناك 17 بحثاً حول التورق مقدمة إلى المجمع".
ويتابع في تصريحاته لصحيفة «ذي ماليزيان ريزيرف»: «لقد انتهيت من مراجعة هذه الأبحاث الآن. ومعظم من كتبوها يقولون إن التورق جائز شرعاً، وهم لا يقفون ضده. لكن لم يكن هناك وقت لقراءة هذه الأبحاث ومراجعتها أثناء الجلسة، بل إن الباحثين لم يتسنَّ لهم الوقت لتبيين ما جاء في أبحاثهم. والذين أرادوا مناقشة الأبحاث لم يتمكن الواحد منهم من الحصول حتى على دقيقة واحدة. ويواصل: "فكيف إذن نستطيع التوصل إلى قرار وإلزام الأمة الإسلامية بأسرها، التي تبلغ الآن تقريباً 1.5 مليار نسمة، بقرار من هذا القبيل تم اتخاذه على عجل؟".
يعد يعقوبي من أشهر المختصين بالمصرفية الإسلامية، فهو عضو هيئة الرقابة الشرعية في مجموعة كبيرة من البنوك والشركات الإسلامية، منها: بنك البحرين الإسلامي ــ البحرين، ومصرف أبو ظبي الإسلامي ــ دولة الإمارات، ومصرف الشارقة الوطني الإسلامي دولة الإمارات، ومصرف الشامل الإسلامي مملكة البحرين، وبيت التمويل الخليجي ــ مملكة البحرين، وبنك المؤسسة العربية المصرفية الإسلامي ــ مملكة البحرين، وبنك المؤسسة العربية المصرفية الإسلامي، وشركة التكافل ــ البحرين، ومؤشر داو جونز الإسلامي، وصندوق الوفرة ــ نيويورك ــ الولايات المتحدة الأمريكية، وعضو في المجلس الشرعي ــ هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ــ البحرين، إضافة إلى ذلك فهو يشغل عضوية عديد من الهيئات الشرعية والصناديق الاستثمارية الأخرى، وتقديرا لجهوده في مجال المصرفية الإسلامية فقد حصل على وسام الكفاءة من الدرجة الأولى من ملك مملكة البحرين للخدمات الإسلامية داخل وخارج البلاد لسنة 2007، وحصل على جائزة (Euro Many) للإبداع في الرقابة الإسلامية للمصارف المالية من ماليزيا لسنة 2007، كما أنه حصل على جائزة ماليزيا للإسهام في المصرفية الإسلامية.
وهناك بعض الفقهاء يوافقون يعقوبي في آرائه ومن أهمهم الماليزي الشهير محمد داود بكر ومحمد أكرم, اللذان لا يوافقان على قرار تحريم التورق المنظم الصادر من مجمع الفقه. ومما يزيد هذه الأمور تعقيدا أن هؤلاء الفقهاء الثلاثة وغيرهم ممن يؤيدون موقفهم بشكل صامت يجلسون في اللجان الشرعية لأكثر من 90 بنكاً على مستوى العالم, أي أن هذه المؤسسات المالية تعمل على فتوى جواز استخدام هذا المنتج وفقا لاجتهادات هؤلاء الفقهاء الثلاثة.
#2#
وعن الاختلاف بين الفقهاء حول منتج التورق، يقول المصدر المصرفي المذكور إن هذا تطور مثير للاهتمام، وهو تطور ضروري، وليس ما نراه اختلاف بين المذاهب، وإنما هو خلاف واضح في الاجتهادات قائم على المصادر نفسها، واختلاف الاجتهادات في الفقه أمر طيب ومحمود، طالما كان في حدود وشروط البحث العلمي الصحيح.
الخلاف بين مدرستين
وفي مقابل الرأي الذي يتبناه يعقوبي هناك من يرى خلاف ذلك، فقد ورد عن أحد المصادر المصرفية الذي يترأس قسم هيكلة الأدوات الإسلامية في أحد البنوك الأمريكية قوله: "إن فتوى مجمع الفقه الإسلامي كانت ممتازة وشاملة وواضحة، وهي رسالة كانت صناعة المصرفية الإسلامية في حاجة إلى سماعها، وقد أظهرت الفتوى أن أعضاء المجمع يفهمون ما يجري في السوق، ولهذا السبب كانوا صرحاء في انتقاداتهم"، وأضاف موضحا رأي يعقوبي "ثم يأتي فقيه بارز يتمتع باحترام واسع ويعلن أنه لا يقبل بالافتقار الواضح إلى متانة وعمق الإجراءات التي اتخذها المجمع في سبيل التوصل إلى تلك الفتوى، وأنا أتوقع أن وجهة نظر الشيخ يعقوبي يشاركه فيها عدد كبير من الفقهاء الناشطين في صناعة المصرفية الإسلامية"، كما أنه يرى أن مثل هذه الأقوال تثير خلافا بين الفقهاء المتخصصين في المصرفية الإسلامية، فيقول: "معنى ذلك أننا الآن أمام خلاف واضح في الاجتهاد بين جهاز علمي موثوق ويتمتع بالاحترام والمكانة الرفيعة، وبين الفقهاء المتخصصين في المصرفية الإسلامية. إنني أرى أننا سنشهد ضغطاً خارجياً متواصلاً على الصناعة من الفقهاء الآخرين، أو ربما من العامة، وهو ضغط سيرغم الصناعة على التصرف والرد على نحو ما"، ويرى المصدر ذاته أن قبول رسالة مجمع الفقه حول التورق، والعمل وِفْقها، سيحدث تحسنا هائلا في المصرفية الإسلامية، وينتج عنه أهم وأبلغ تطور لا يستهان به في صناعة المصرفية الإسلامية منذ نشأتها، كما أن مضامين هذه الفتوى الخاصة بالتورق وآثارها ستكون بعيدة المدى بصورة هائلة، ولن يتوقف أثرها عند هذا الحد، بل سيمتد إلى الأسواق الرأسمالية، وحين نصل إلى هذه المرحلة، سيكون لدينا أنموذج في المصرفية الإسلامية لا يشبه من قريب أو بعيد الوضع الحالي لهذه الصناعة، وعندها فإن هذه الصناعة ستجعل العالم بالفعل يقف على قدميه ويوجه أنظاره إلى ما يحدث فيها. وسيمتد الأثر كذلك إلى صناعة التجزئة، حيث إنه لن يعود بعد ذلك بإمكان المُوْدِعين في البنوك أن يتوقعوا الحصول على فائدة على ودائعهم، بأي شكل من الأشكال.
وقد ورد عن يعقوبي في تصريحاته الصحافية قوله: "مصدر قلقي ليس فقط الفتوى التي أصدرها المجمع حول التورق. وإنما أشعر بالقلق حول العملية بأسرها التي يمر بها المجمع في الوقت الحاضر"، وانتقد آليات عمل المجمع الفقهي الإسلامي، فقال: "لو أن المجمع يريد أن يحظى بالاحترام، كما كان في السابق، فعليه أن يعود إلى عملية التمحيص والمراجعة السليمة التي كان يتبعها في الماضي، وإلى الدقة والشمول بخصوص كل القضايا الحساسة، سواء كانت في الطب الحيوي، أو في القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية". هذا وفي سؤال حول هيئة المحاسبة وعملها ومعاييرها، وقف يعقوبي مناصرا لها وفضلها على مجمع الفقه، وقال إن معايير الهيئة تمر من خلال أبحاث متينة، مشيرا إلى أن هيئة المحاسبة تتمهل في اتخاذ قراراتها، مقارنة بمجمع الفقه الذي يتخذها على عجل، وأشار إلى الخطوات التي تتخذها هيئة المحاسبة قبل اتخاذ القرار، حيث تبدأ بإعداد بحث كتابي تتم مناقشته في لجان الأبحاث، بعد ذلك يتم إعداد مسودة معيار بهذا الخصوص، ثم يحال إلى المجلس الشرعي المؤلف من 15 عضواً، وبعدها يقوم أعضاء المجلس بدراسة الموضوع بعناية عند ذلك يعاد ليناقش في جلسة استماع علنية، ويستغرق العمل على كل معيار لدى هيئة المحاسبة ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات.
وجاهة التحليل ومسوغات التحريم
يرى الشيخ نظام يعقوبي عضو الهيئات الشرعية وعضو المجمع الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية أن التورق جائز من الناحية الشرعية، عند كثير من الفقهاء، وهناك خلط بين التورق المنظم وغير المنظم، لأن من يحرم التورق عليه أن يحرم كافة تعاملات البنوك الإسلامية، كالمرابحة والمضاربة والسلم وغيرها مما يعتبر تحايلا على الشريعة الإسلامية، ولا يمكن تحريم التورق دون بقية التعاملات المصرفية الأخرى، ووصف يعقوبي قرار مجمع الفقه الإسلامي الأخير، الذي ينص على تحريم التورق بـأنه سقيم، وأشار إلى أن المجامع الفقهية تعمل بالبيروقراطية التي أصبحت تركز على الجانب السياسي أكثر من غيره، والأدهى من ذلك أن نظام المجمع الفقهي لا يستمع إلى ملاحظات الباحثين قبل إصدار أي قرار، كما حدث في قرار تحريم التورق، حيث صدر القرار قبل مناقشة الموضوع مع الباحثين الذين حضروا، كما أن المجمع الفقهي الإسلامي لم يناقش قضية التورق بشكل مستفيض، وأن مثل هذه المواضيع وإصدار الأحكام حولها يستوجب مناقشة كافة علماء المسلمين والباحثين وطلاب العلم، وليس من المعقول أن يتم إصدار الأحكام بهذا الشكل.
أكد يعقوبي أن التورق له شروط معروفة لدى العلماء، وفي حال تطبيقها بشكل صحيح، فإنه لا يمكن تحريمه، وإنْ وجد بعض الملاحظات عند بعض البنوك، فلا يعني أن الجميع قد تحايل على الشريعة بهذا الموضوع، و"التورق" هو شراء العميل طالب السيولة سلعة بثمن مقسط مؤجل من البنك، ثم بعد ذلك يبيع السلعة، ويقضي بثمنها الحاجة التي أراد من أجلها المال، ويتم تطبيق "التورق" في عدد من البنوك، بهدف توفير السيولة النقدية لبعض العملاء من خلال أداة تمويلية إسلامية، من دون تعريضهم لخسائر مالية كبيرة. وينقسم التورق إلى قسمين، الأول يسمى التورق الحقيقي، وهو أن يحتاج شخص إلى النقد؛ فيشتري سلعة من البنك بثمن مؤجل، ثم يبيعها لطرف ثالث نقدا، وهو تورق يجيزه بعض الفقهاء بثلاثة شروط: أن يتملك البنك السلعة ويقبضها قبل أن يبيعها للعميل، وألا يبيع العميلُ السلعة التي اشتراها حتى يملكها ملكية حقيقية، ويقبضها من البنك بشروطها الشرعية، وألا يبيع العميل السلعة إلى البنك، ولا على الشخص الذي باعها إلى البنك أولا، وألا يكون هناك تواطؤ أو عرف بذلك؛ أما النوع الثاني، وهو التورق المنظم، وهو شراء السلعة من البنك بالأجل مع توكيله ببيعها قبل أن يقبضها، والأغلب أن يكون هذا النوع من التورق في السلع الدولية، كالمعادن، وقد يكون في السلع المتداولة في السوق المحلية.
وهناك فرق بين النوعين، ذلك أن العميل في التورق المنظم لا يقبض السلعة ثم يبيعها بنفسه، بل يوكل البنك ببيعها، وهذا النوع يحرمه أغلبية العلماء؛ لأن العقد فيه حيلة على الربا، فالعميل لم يقبض من البنك إلا نقودا، وسيرد إليه تلك النقود بعد أجل بزيادة، فحقيقته قرض من البنك للعميل بفائدة، والسلعة المسماة في العقد إنما جيء بها حيلة لإضفاء الشرعية على العقد، والعميل لا يسأل عن السلعة، ولا يفاوض في ثمنها، بل ولا يعلم حقيقتها؛ لأنها غير مقصودة أصلا، وإنما المقصود من المعاملة هو النقود، ويقتصر دور العميل على التوقيع على أوراق يُزعم فيها أنه ملك سلعة، ثم بيعت لصالحه، ثم أودع ثمنها في حسابه. أما في التورق الحقيقي فالعميل يستطيع أن يحتفظ بالسلعة أو يبيعها بنفسه في السوق؛ لأنه قبضها قبضا يتمكن به من التصرف فيها بما يشاء.