«البيضاء».. الطبيعة الفاتنة يلاحقها «داء المدن»
تتجه بوصلة السعوديين غالبا إلى العودة إلى طبيعة لامسها أجدادهم وتعاملوا مع أيقوناتها: «الحطب، الخيمة، الرمل»، كما يتعامل أحفادهم اليوم مع أيقونات أخرى: «الإنترنت، المحركات، الفضائيات»، لكن الأيقونات الأخيرة يبدو أنها تفسد العودة للتمتع الكامل بالأولى.
وبدا زحف التقنية الحديثة وأزيز المحركات الصغيرة غازيا قويا لمتنزهات كان ديدن الداعين والمشجعين لزيارتها هو الاستمتاع بأجوائها الهادئة والعودة إلى طبيعة تشبه الطبيعة التي عاشها جيل صارع الصحراء غير أنها أكثر رحمة وأقل قسوة من تلك الطبيعة غير المنتخبة مع اعتدال في الجو وامتداد في الظل ووفرة للماء وللطعام في براري منتخبة كمتنزه البيضاء شمال المدينة المنورة.
ويؤكد صالح النجار وهو يشغل وظيفة ذات علاقات عامة متشعبة، أن المتنزه البري الأهم في المدينة المنورة لا يكفيه أن كثيرا من رواده يعانون زحف التقنية الحديثة إلى أدق خصوصياتهم وقلب أوقات راحتهم إلى اتصالات مستمرة هاتفية وعنكبوتية ليجدوا أنفسهم كذلك مع نوع آخر من الإزعاج تخلقه أصوات المحركات المتناثرة في بطاح المتنزه والمثيرة لعاصفة غبارية لم نأت هنا لعدم وفرتها في جوار بيوتنا ووسط أحيائنا، بل جئنا لننعم براحة وطمأنينة كتلك التي عاشها أجدادنا ولو ليوم واحد، غير أن هذا اليوم بخلت علينا به آلة الزمن المادي الذي نعيشه.
اتصالات مستمرة لملاحقة لقمة العيش لرب أسرة ظن أن الترفيه يعني فقط أن يأتي بالأسرة لمتنزه بري في يوم العطلة الأسبوعية، بينما يواصل هو نمط معيشة مشابه لبقية أيام الأسبوع ما يثير حنق رفاقه في هذه الرحلة كما تقول إحدى الزوجات، غير أن الأسرة لا تعاني فقط انشغال الأب بتحصيل الرزق بل إن آخرين أيضا يحاولون تحصيل أرزاقهم بطرق أخرى قريبا من ظل الشجرة التي تستظل بها الأسرة, إذ تحوم «الدبابات» في أرض معركة الرزق لتثير الغبار في وجوه القادمين وتنادي صبيانهم للعب دور البطولة على ظهر المركبة الصغيرة على أن يقتص من جيب والده أوراق نقدية تشبع أطماع أصحابها.
لم تكن «البيضاء» قبل سنوات بمثل هذا السوء .. كما يقول أحد روادها، مؤكدا أنها تتحول شيئا فشيئا إلى حي شعبي مكشوف وسط مدينة معتدلة الجو غير أنها ملوثة بدخان المحركات وغبار الأتربة وضجيج المدن يزحف إليها رويدا رويدا حتى تظنها مدينة صناعية لا متنزها بريا ليضع - صاحبنا - اللوم على جهات عدة تبدأ بالأمانة وتنتهي بوزارة التجارة.
لكن البيضاء وهي منطقة رملية على مساحة عدة كيلو مترات مربعة تحيط بها الجبال الخشبية اللون مميزة الشكل وتزينها الرمال البيضاء لم تكن يوما سوى ضحية روادها كما يقول مواطن آخر، حيث يشير بيده إلى بقايا طعام وأثر أدوات مدنية تم استعمالها وإهمالها على الأرض كأكياس النايلون وسفر الطعام المستخدمة الملتفة على أصناف شتى من الطعام والملقاة بإهمال إلى جانب الشجر.
جانب آخر من التلوث الصناعي يتعلق ببعض المتنزهين وهم يأتون بتلك الدبابات المسؤولة عن حدوث الجلبة والإزعاج والمثيرة للغبار وللأدخنة إلى جانب تشغيل أجهزة الموسيقى عالية الصوت للتعبير عن البهجة والمرح من مجموعة شبابية قد تكون إلى الجوار من عائلة بسيطة تنشد الهدوء والسكينة.
ولجهة الجهود الرسمية في تنظيف المنطقة تتوزع فرق يومية من العمال تابعة لأمانة المدينة المنورة تجوب المكان وترفع الأذى عن هذه المنطقة الجميلة التي تبعد نحو 40 كيلو مترا إلى الشمال من مركز المدينة المنورة إلى جانب دوريات متقطعة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحاول الإبقاء على السمت الهادئ والملتزم للمتنزهين وتعالج ما يتعارض مع سلوك المجموع، إضافة إلى دوريات أمنية اعتيادية تقوم بأدوار متعددة بدءا بحفظ درجة الشعور بالأمن والأمان ولا تنتهي عند حد تقديم المساعدات للمقطوعين من أسر توقفت سياراتهم في الرمال أو سحبت بطارياتها أثناء الوقوف.
جانب آخر غير مكشوف للبيضاء
إن كانت البيضاء التي عرفها أهل المدينة منذ عقود ملاذا لمحبي الطبيعة من ضوضاء المدن قد أخذت في التحول إلى مكان جديد محتل لصالح المدنية التي غزت طبيعتها الجميلة فإن جانبا آخر منها لم يتم اكتشافه بعد على النحو الذي اكتشف فيه الجانب المعروف من المتنزه البري الذي تتكانفه محال تأجير لوازم المناسبات ومحال المواد الغذائية وشبكة اتصالات متنقلة عالية الجودة.
إلى الشرق مما هو قائم وفي الجانب الآخر من الجبال البارزة تمتد أرض بكر جرداء لم تدنسها زيوت المحركات ولم تملأ سماءها بعد موجات شبكات الاتصالات وتدع المتنزهين فيها يمارسون أجمل أوقات التجلي لطبيعة داعبت أدواتها أجيال سالفة ولا يضيرها سوى المرء الوحيد البارز للمدنية الحديثة والقائم في سيارة الدفع الرباعي المجاورة التي هي الوحيدة القادرة على الوصول بعيدا إلى داخل هذه البيئة، ما يفسر قلة أعداد زوارها مقارنة بجارتها البيضاء الغربية التي يشقها طريق معبد تتوزع على جنبيه محال الخدمات.
لكن الجارة الشرقية من أرض المتنزه سعيدة بتركها طبيعته الربانية التي أبقتها جميلة طوال المدة الماضية، وهي إلى ذلك وفقا لبعض روادها القليلين تتمنى ألا يتكدس عليها المتنزهون ليحولوها إلى مدينة صناعية أخرى.