بين الصوت والصورة نخلة تهوي !

هذه ليست رواية من روايات الأفلام أو نسجا من خيال شاعر أو رسام، إنما هي حقيقة أدركت زمنا منها ومنكم بالتأكيد من أدركها، تبدأ الحكاية حينما وجدت قبل أيام شريط تسجيل صوتي في أرشيفي الخاص فأخذته لأسمعه في السيارة، وما إن بدأ مسجل السيارة بالعمل حتى توجه قلبي وتفكيري إليه وتفاعلت مشاعري معه، لقد كانت لحظات تعبر عن مرحلة من مراحل حياتي، لم أدرك نفسي وأنا أقود السيارة تارة أضحك وأخرى أبكي، لقد ذهب بي في رحلة مع الزمن امتدت لعشرين عاماً حينما كنت في الصف الثالث الثانوي حيث ذهبت مع بعض الأصدقاء في رحلة قصيرة إلى روضة «الجبلة» وهي مجموعة من الهضاب العالية والملتفة حول بعضها في لوحة جميلة تقع في وسط أرض منبسطة بين مدينتي الدوادمي والرس وتحيط بها وتعلوها كل أنواع الأشجار البرية النجدية الطبيعية «الرومنسية»، وكان معي جهاز تسجيل صغير لأسجل بعضاً من أحداث الرحلة ولقاءات قصيرة مع الأصدقاء. إذ لم تكن تتوافر لنا قديماً كاميرات الفيديو ذات الدقة العالية والأحجام الصغيرة والأسعار الرخيصة، فكان جهاز التسجيل وكاميرا التصوير الثابتة هما سيدا المواقف لتسجيل الأحداث وحفظ الذكريات.. احتفظت بهذا الشريط ذكرى جميلة من ذكريات أيام الدراسة، لقد أضحكني ما فيها من طموحات وأحلام وتعليقات وتمتمة في الكلام !! وأبكاني ما فيها من روح وصدق وبراءة وعلو همة لدينا في تلك المرحلة العمرية.. وقد افتقدنا بعضاً منها مع زحمة المشاغل وأعباء الحياة !!
عُدت لأقلب أرشيفي فوجدت بعض الصور الحزينة !! عن مزرعتنا الجميلة ذات النخيل الباسقة تتوسطها بعض أشجار عنب ورمان وأثل وشيء من سدر قليل، لقد كانت ترتوي حتى الثمالة من ماء منهمر من الآبار تضخه «السواني» التي يدور بها جمل مغلوب على أمره !! ليس كجمال اليوم التي تتسابق في المزاين !! و تتباهى بعرض الشفة وارتفاع السنام !! .. تلك أيام أجدادي، أما ما أدركته من عهدها فقد كانت آلات تعمل «بالديزل» تسمى «البلاكستون».. وما أجمل أن تمتزج في أذني «طق .. طق ..طقطقة « البلاكستون مع صوت هدير المياه ووحيف النخيل وتغاريد العصافير وصوت الأذان يجهر به والدي رحمه الله بجانب المسجد وسط منازل الأسرة ذات البناء الطيني بطابعها النجدي، لقد كان والدي رحمه الله في عقده الأخير وقد تجاوز الثمانين عاماً إذ ذاك يجاهد نفسه بحماية تلك المزرعة من الهلاك ظمأ بعد أن «أصبح ماؤها غورا» .. تركنا وسافر للإقامة فيها بعد أن غادرها من كان يذوب عشقاً فيها إلى رحمة الله، بدأ الوالد يعتني بها وينفق أمواله التي ادخرها من التجارة فيها وفي تعميق آبارها وحفر آبار جديدة أملاً في توفير الماء الكافي بعد أن بدأت بالذبول شيئاً فشيئاً .. يبس البرسيم والخضار ثم أشجار الرمان والعنب ثم بدأت النخيل رحلة الوداع، أنفق والدي معظم أمواله بل استدان أموالا طائلة ليشتري آلات الحفر وسافر ليجلب العُمال المهرة الذين يمتلكون الجرأة والصبر للنزول في أسفل سافلين لحفر تلك الآبار، هذا إضافة إلى آلات الحفر الحديثة «الارتواز» .. فلما يئس من تلك الآبار اشترى مزرعة صغيرة في إحدى القرى القريبة وشاحنة لنقل الماء «صهريج» وجلب سائقا لينقل الماء منها إلى مزرعتنا، أرهق نفسه وحملها الديون .. فجلست معه ذات مرة محاولاً تخفيف الأمر عليه وإقناعه بالأمر الواقع ليترك أمرها إلى خالقها ويكتفي بالتضرع لرب العالمين ويسأل الله الخيرة في أمره، وبعقلية المثقف «المتأقصد» ناقشته حول جدوى كل ما ينفقه على تلك المزرعة مقابل ما سيجنيه منها !! فرد علي بكلمات قلبت كل الموازين في حياتي «بلاك والله ما تحس اللي في نفسي !!»، إذاً لم يكن يقيس كل الأمور بمقياسها المادي الفاني كما يفعل كثير من تجارنا ورجال أعمالنا بل كان يقدم الجانب الإنساني والروحي، لقد كان يرى في تلك المزرعة ما لم أكن أراه فيها، ذكريات وذكريات مطبوعة في خياله لا تحتاج إلى كاميرا أو جهاز تسجيل، تارة يرى والدته في زاوية المطبخ تعجن وتعد الطعام أو تحلب الماعز أو الشاه كما كانت تفعل في حياتها رحمها الله وتارة يرى والده وقد شمر عن ساقيه يعدل جدول الماء «يروس» ليسقي النخيل واحدة تلو أخرى، أو في أعلى النخلة يقطف أطايب التمر «يخرف» أو في صدر المجلس بجوار النار «الوجار» يعد قهوته العربية الأصيلة لضيوفه الجالسين من حوله، هكذا يحتفظ في خياله صورا وصورا لمن فقدهم من أحبابه بين النخيل وفي كل ركن من أركان البيت أو زاوية من زوايا المزرعة.
توفي والدي رحمه الله وذهبت معه المزرعة بل كل المزارع المجاورة ظمأ، فلما زرتها قبل عامين إذا بطوال النخيل قد تصرمت جذوعها لثلاثة أقسام يربطها ما بقي من ألياف رطبة فخشعت نحو الأرض في صورة حزينة وكأنما هي ساجدة، جلت في المكان الخالي وتأملت ما بقي فيه من آثار، وقد تذكرت كلمات والدي وأحسست بحقيقة إحساسه وتمثلت لي أبيات لأحد الشعراء حينما قال في مثل هذا الموقف:
قف بالديــــــــار فهذه آثـــــارهــم
تبـــكــــي الأحبــــة حســــرة وتشـــوقــــا
كم قد وقفت بها أسائل أهلها
عن حــالهـــم متــرحــماً أو مشـــــفقـــا
فأجابني داعي الهوى في رسمها
فـــــارقــــت من تهــــوى وعــــز المــلتـقا

ما أحوجنا في هذا الزمان إلى المواءمة وخلق التوازن بين حاجاتنا المادية وما يحيط بنا من معان روحية من صدق ووفاء وحب وبر للوالدين وصلة للأرحام وتواصل مع الجيران واحترام للإنسان، ورحمة للمساكين والأيتام .. هذه المعاني هي وجه الحياة المشرق وروحها الحقيقية فإن نحن غيبناها من حياتنا وجعلنا كل همنا في جمع المال فوق المال بكل الطرق والوسائل فقدناها وفقدنا تلك الأموال.. فما ينفع الميت بعد هذا لو ألبسناه حلل الملوك وتيجانهم!!.

،، ودمتم بخير وسعادة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي