ميزانية الدولة وتنبيه من الملك
يعتبر إعلان ميزانية العام المقبل مفاجأة كبيرة للكثيرين خاصة في هذه المرحلة التي يعانيها جميع الدول من الأزمة الاقتصادية. وقد كان الجميع يتوقعون أن تكون ميزانية العام المقبل أقل بكثير مما أعلن بل كانت التوقعات أن تتقلص قليلاً عن العام الماضي في ظل الظروف الاقتصادية المحيطة بنا. ولكن الميزانية فاقت التوقعات، بل إنها تضمنت زيادة في معدلات الإنفاق على المشاريع الحيوية مثل البنية التحتية والتعليم والصحة. فجاءت بمبلغ 540 مليار ريال وزيادة مقدارها 14 في المائة لتؤكد حرص الدولة على استمرارية تعزيز مسيرة التنمية المستدامة على الرغم من الظروف الاقتصادية الدولية وانخفاض أسعار البترول والطلب عليه. وعلى الرغم من ذلك لم يؤثر الإنفاق في الأولويات الأكثر دعماً للنمو الاقتصادي وللتنمية وتوفير مزيد من فرص العمل للمواطنين من خلال التركيز على قطاعات التنمية البشرية والبنية الأساسية والخدمات الاجتماعية.
لقد تضمنت الميزانية مشاريع جديدة ومراحل إضافية لعدد من المشاريع التي سبق اعتمادها بتكاليف 260 مليار ريال مقارنة بـ 225 مليار ريال بميزانية العام المالي الحالي. كما تم تخصيص 137 مليار ريال لقطاعات التعليم العام والعالي وتدريب القوى العاملة.
قبل إعلان ميزانية العام المالي الجديد كان لخادم الحرمين كلمة لتجسد إحساسه بمشكلاتنا وبيروقراطيتنا. فهو ''يسمع ويرى أن هناك تقصيرا وأن هناك مشاريع غير ماشية في برنامجها الصحيح''. لذلك فهو مرة أخرى يؤكد التنفيذ الدقيق والمخلص لبرامج ومشاريع الميزانية. ويدعو ''الوزراء ورؤساء الأجهزة الحكومية للمتابعة الدقيقة لما يُنفذ، دون أي تقصير أو تهاون والاستشعار الدائم للمسؤولية والأمانة التي تحمّلوها أمام الله ثم أمامنا، وعلى الأجهزة الرقابية القيام بدورها على أكمل وجه ورفع التقارير إلينا أولاً بأول''، ويجرد وزارة المالية من المسؤولية ليلقيها على بقية الوزراء.
وجاءت خطبة الجمعة في الحرم المكي للشيخ الشريم بعدها لتؤكد تلك الرسالة لبعض المسؤولين. فكان فيها الإشارة الواضحة إلى حكم من تخلى عن الأمانة التي أؤتمن عليها. وتأكيدها أن الأمين حتى لو كان أمينا ولكنه يعرف أنه ضعيف أو في منصب لا يقدر عليه، ويعلم أن هناك من هو أجدر منه أن يتنحى عن منصبه لمن هو أجدر في خدمة الوطن. واستشهاده بالآية ''إن خير من استأجرت القوي الأمين''. وسبقها خطبة من غشنا فليس منا، وأن الغش محرم بجميع أنواعه وهو حرام سحت.
الإعلان عن صدور ميزانية الدولة والأرقام التي فاجأتنا بها رغم ما مر به العالم من معاناة وغرق في الأزمة الاقتصادية هو في حد ذاته دليل على أننا قد نكون دولة لا تتأثر كثيراَ بمجريات وأحداث العالم. وقد تكون تلك ميزة نسبية لنا، فنحن ما زلنا نعتمد على الدولة، والدولة تعتمد على النفط، ودور القطاع الخاص ما زال ضعيفاً مقارنة بما تبذله الدولة من مجهودات لتشجيعه وتطويره وللسنوات الـ 50 الماضية. فنحن دائماً ننتظر صدور ميزانية الدولة وهو انتظار لم أشهده في غيرنا من الدول. ومن النادر أن ترى أي مجتمع أو اقتصاد في أي دولة تعتمد على ميزانية الدولة فقط، بل إنها تنظر إلى الأداء والناتج القومي للقطاع الخاص وميزانيته أو مشاركته المالية في الاقتصاد. ولنرى مدى تأثير ميزانية الدولة وصرفها المليارات خلال سنوات وخطط التنمية الحالية والسابقة للتشجيع على تنويع مصادر الاقتصاد وإعطاء القطاع الخاص فرصة للتطور لنصبح مستقبلا ننظر وننتظر ميزانية القطاع الخاص أو مؤشراته بدلا من انتظارنا ميزانية الدولة.
رسالة خادم الحرمين هي مساءلة لما تم تحقيقه في ميزانية العام الماضي ولماذا يسمع ويرى بعض التأخير! أين ذهبت مبالغ الميزانيات السابقة؟ وهل تم صرفها وتنفيذ المشاريع في وقتها المحدد؟ ومن المستفيد منها؟ ومتى تصبح الميزانية مصدر رزق لتوفر فرص العمل لأبنائنا. فهي حالياً توفر فرص العمل لإخواننا العرب والمسلمين وهو شرف لنا وواجب عربي وإسلامي. ولكن لا بد من تشخيص الخلل في موضوع تأهيل وإحلال العمالة الوطنية محل الأجنبية. فجزء كبير من الصرف على تلك المشاريع يتم صرفه لمقاولين وموردين وعمالة أجنبية بأعداد كبيرة وأموال كبيرة تسربت للخارج ولا يتم تدويرها في الوطن. وعلى الرغم من أن الدولة تكلفت مبالغ هائلة خلال السنوات الماضية لبناء الإنسان السعودي وتعليمه وابتعاثه وتدريبه, إلا أننا ما زلنا نفتقد العمالة السعودية المؤهلة للبناء والمقاولات. كما أن الدولة تكلفت ببناء أكبر بنية تحتية متميزة عمن حولنا من الدول ولخدمة المواطن والقطاع الخاص لينمو ويستمر في ذلك حتى يصبح قادرا على النمو والتطور والإبداع ذاتيا, وليصبح لدينا اقتصاد متكامل ومتنوع المصادر. إلا أننا ما زلنا نفتقد أيضاً شركات مقاولات مؤهلة وبعمالة وأيد سعودية لتذهب أموالنا لأبنائنا وتدور في وطننا. فنحن لدينا ثروات أخرى حبانا الله بها ولم نستغلها بعد. وقد تكون السياحة من أهم تلك المصادر.
فمرحلة البناء لتلك المشاريع وتنفيذ البنية التحتية هي فرصة أكبر ليستفيد منها المواطن لو خططنا لها بطريقة تدريجية. وأن يتم إعطاء فرص للشركات الصغيرة وأن توفر فرص عمل وفرص تجارية للتجار ومصانع مواد البناء وغيرها. تلك المشاريع يجب أن يخطط لها مسبقاَ وأن يتم التنسيق مع المؤسسة العامة للتدريب ووزارة العمل التي من المفترض أنها تعلم عن مخزوننا من تخصصات المهن الوطنية ومدى احتياجاتنا للسنوات المقبلة فنحن - إن شاء الله - مقبلون على مشاريع أهم وستستمر مسيرة التنمية والتطوير. لذلك فإننا يجب أن نستمر في صناعة كوادر مستقبلية في البناء والمقاولات وصناعاتها. وسنبقى نحتاج إلى عمالة وطنية للصيانة السنوية واليومية.
لا بد من خطة مجدولة تدريجياً لتدريب العمالة المحلية حسب احتياجاتنا المستقبلية بالتنسيق أيضاً مع وزارة التخطيط وخططها الخمسية ومخرجاتها. وأن يصاحبها برامج توعوية وتدريبية لمواطنينا للمشاركة في البناء والعمل. وأن نمسح وصمة أن العمل عيب. وأن نرسخ مبدأ العمل، وأننا لن نستطيع منافسة غيرنا إلا إذا عملنا. وأن العمل واجب اجتماعي وليس ترفاً. فهي فرصة لتكوين كوادر فنية في صناعة البناء والمقاولات والهندسة والصناعة. إنها معضلة أن يفرح مواطنو معظم دول العالم عند تبني دولهم مثل تلك المشاريع، لأنها تحل مشكلة البطالة لديهم، نجد أن من يفرح بمشاريعنا هي عمالة الدول الأخرى وكأننا نحل مشكلة البطالة لديهم.
وهنا أطرح السؤال: هل العمل واجب وطني وديني أم تسلية ورفاهية؟ أعتقد أنه من حقي كمواطن أن أسأل هذا السؤال وأن أطالب بقية إخواني المواطنين العاطلين أن يعملوا بجدية ووطنية صادقة إذا أردنا أن نعيش في مجتمع ودولة واحدة, وأنهم ليسوا أحرارا في ذلك، بل يجب أن يخجلوا, فهذا حق لنا وواجب وطني تفرضه أخلاقيات الدين والمجتمع لنتعايش معا, تفرضه تعاليمنا الدينية. تتفاخر الدول فيما بينها بالعمل والإنتاجية وتحاول أن تخرج للعالم أمثلة خارقة للعادة عن مدى تضحية وجدية مواطنيها للعمل على الرفع من سمعة دولها. وربما لا يختلف اثنان فيما قدمته الشعوب اليابانية والأمريكية والألمانية من صورة تعكس قدرتها الإبداعية لجدية مواطنيها للعمل والابتكار حتى أصبحنا نعتمد ونعيش عالة عليهم. وتحاول دائما تلك الدول أن تستثمر في تقديم صورة عن مدى جديتهم في تخصصات مختلفة، وتنظر تلك المجتمعات إلى أفرادها غير العاملين على أنهم مصدر قلق لها، وأن العمل فرض وواجب وطني وحق للوطن.
إنها رسالة للجميع تؤكد أن خادم الحرمين لن ينام أو يهنأ له بال قبل أن يتأكد من سير دفة الأمور بإخلاص ووطنية، وأنه يحملنا المسؤولية كمسؤولين ومواطنين.
والإنفاق على التعليم هدف أساسي أن تتم الاستفادة من الخبرات والكوادر الحديثة التي استثمرت فيها الدولة بالابتعاث والتعليم ليؤتي ثماره، حيث آن الأوان لأبنائنا أن يردوا الجميل لأهلهم وأن يسهموا في بناء مستقبل واعد لهم ولأبنائهم.