هل بلغ الفكر الاقتصادي سن الرشد؟!

لقد كشفت الأزمة المالية العالمية، ليس عن اختلالات في بنية النظام المالي على مستوى التعاملات المصرفية وعلاقة الامتيازات الذاتية للإدارة العليا والسماسرة النافذين فحسب، وإنما كشفت أيضا عن عمق المأزق الذي يعانيه الفكر الاقتصادي ككل من حيث عدم مناعته لحدوث ما حدث.
فالفكر الاقتصادي حتى الآن عاجز عن إيجاد آلية قادرة على حل مشكلة توزيع الثروات والدخول بما يكفل سريان العمليات الاقتصادية دون أن تصبح الثروة قوة احتكارية في جهة بعينها، سواء أشخاص أو مؤسسات، ودون أن يعني ذلك تسوية مكلفة تضع في معيار واحد الكفؤ والمنتج للاقتصاد الحقيقي بالانتهازي أو الخامل.
لقد كانت أبرز مرتكزات الحرية الاقتصادية تؤكد أن السوق هو الآلية الأكثر كفاءة في تعبئة الموارد، بمعنى: قدرته على حشد التمويل للاستثمار، وعلى هذا النحو مضت المشاريع تشرب من معين هذا السوق رغم شارات الخطر التي تطرأ بين الحين والآخر، غير أن المتحمسين لنظرية السوق ظلوا يؤكدون أنه قادر على تصحيح نفسه بنفسه، وهو رأي صحيح، لكن ثبت كذلك أنه قادر على تدبير نفسه بنفسه كما حدث في كساد 1928 وكارثة العام المنصرم.
تدخل الدول، الولايات المتحدة الأمريكية، ودول أوروبا، لإنقاذ بنوكها ومصارفها وشركاتها الكبرى، برهان على ما سبقت الإشارة إليه، أي عجز الفكر الاقتصادي عن آلية يحل بها إشكالية تفاوت الثروات والدخول، فضلا عن عجز الفكر الاقتصادي عن التنبؤ بالاختلالات الكارثية رغم كل النماذج التي استحدثها واعتمد عليها الاقتصاديون بناء على رأي هذه المدرسة الاقتصادية أو تلك.
إن المعضلة في الاقتصاد هي الثروة كمعادل للجهد .. أو المال كممثل للعمل، ففي هذه العلاقة هناك تعقيدات إجرائية وظرفية وبشرية، والأخيرة (البشرية) أكثر تعقيدا، حيث يدخل فيها عنصر الذكاء، الدهاء، المعرفة، الخبرة، الميول، والرغبات والإمكانات البيولوجية الأخرى ، الأمر الذي لا يتيح مجالا لأن تكون العوائد متساوية لشخصين لمجرد أنهما يؤديان العمل ذاته، فقد يحدث التفاوت بسبب اختلاف المؤسسة، أو بسبب طبيعة الأداء والمهارة والذكاء والقدرة على الإنتاجية وغير ذلك من اعتبارات. الأزمة المالية أسفرت عن أناس يتقاضون أموالا طائلة وهم لا يبذلون من الجهد والعناء ولم يتلقوا من التعليم أو يمتلكوا من الخبرة ما يوازي ولو قدرا بسيطا مما يتوافر عند أولئك المميزين ممن دخلهم الشهري قد يقل عن دخل يوم واحد لمصرفي نافذ أو موظف في تلك المؤسسات المالية، رغم أن صاحب الدخل الزهيد ذا الامتيازات العلمية والمهارية ينتج اقتصادا حقيقيا في مصنع أو مزرعة أو معمل أي أنه يسهم في تطور وطنه وتقدمه فيما المصرفي يتقاضى مالا كثيرا لمجرد كونه هناك مصادفة، وعمله لا يعدو سوى الضرب والطرح والقسمة بلمسة إصبع على جهاز الحاسوب ليس إلا.
الأزمة المالية بعثت إلى العلن هذه الإشكالات وأعادت إحياء الأسئلة القديمة عن دور الاقتصاد وحقيقته، وكيف يعمل، ولمن يعمل، وأين يتجه؟ وبالجملة جعلت العالم يقابل بين جدوى السياسة النقدية ويتجه إلى إعادة الاعتبار للسياسات الاقتصادية لتقود دفة السياستين: المالية والنقدية، فقد أطاحت عاصفة الأزمة المالية بمزاعم جوهرية إدارة الاقتصاد بالمصارف والبنوك وشركات المال معيدة التذكير والتأكيد بأن المصارف والبنوك وشركات التمويل إنما أنشئت أصلا ووجدت من أجل خدمة الاقتصاد وليس العكس، غير أن حل معضلة توزيع الثروة والدخول ما زال دون علاج وكذلك معضلة أين تبدأ آلية السوق وأين تنتهي، ربما لأن الفكر الاقتصادي نفسه لم يبلغ سن الرشد بعد!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي