الأيتام وأبوّة الملك

يُشكل اليتم بفقدان أحد الوالدين أو كليهما حالة إنسانية خاصة، قد لا يستطيع استشعار أبعادها النفسية إلا اليتيم نفسه، أو مَن وهبه الله قلبا دافئا وقادرا على الخروج من الذات للإحساس بمشاعر الآخرين، وملامسة تلك المشاعر الحميمة بيد حانية لن تعوض حتما غياب عاطفة الأبوين.. لكنها بالتأكيد ستختصر حجم الجرح إلى أبعد مدى، امتثالا للأوامر الإلهية التي كرست القسط في اليتامى كأحد أبواب أدبيات ديننا الحنيف، وحثت المجتمع على الإحسان إليهم واحتضانهم لتخفيف ألم الفقد، ثم لدمجهم في نسيجهم الاجتماعي كأعضاء كاملي العضوية.
خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ يحفظه الله ـ والذي استوعب بقلبه الكبير كل ما هو إنساني، وفي غير موقع، لم تغب هذه الفئة الكريمة والعزيزة عن ذهنه، وهو الذي انطبعت كل أوامره وقراراته بمسحة إنسانية خاصة لا يُجيدها سوى مَن وهبه الله إحساسا إنسانيا وأبويا مخلصا وشفافا، حيث لا يُمكن إلا أن يكون في صف الإنسان أينما كان، حينما لم يتوقف عند معالجة حالات اليتم إلى أن يشتد عودها، وتعتمد على ذاتها، وإنما ذهب لما هو أبعد.. عندما أصدر أخيرا أمره الكريم بشمول الأيتام من ذوي الظروف الخاصة ممن تجاوزوا الـ 18 بنظام الضمان الاجتماعي، والاستفادة من جميع المزايا والبرامج التي يقدمها الضمان الاجتماعي للفئات المشمولة بنظامه، وفقما أعلن عنه الدكتور يوسف العثيمين وزير الشؤون الاجتماعية، ذلك لأنه ـ حفظه الله ـ يُدرك بغريزة الأب العطوف أن عامل السن وحده لا يكفي كمحدد ثابت لاستغناء بعض الأيتام عن تلك المظلة الاجتماعية التي وفرتها الدولة، على اعتبار أن هناك حالات خاصة من بين هؤلاء الأيتام وممن بلغوا سن الرشد، وأثقلتهم مشاعر الفقد فحالت بينهم وبين تحقيق ذواتهم، لا يزالون في أمس الحاجة إلى غطاء تلك المظلة إلى أن يجتازوا ظروفهم، ويجدوا مكانهم في نسيجهم الاجتماعي.. فكانت هذه المكرمة الملكية الأبوية الكريمة، التي سيستفيد منها آلاف الأيتام في مختلف مناطق الوطن ومحافظاته.
لقد جاءت هذه المكرمة لتؤكد تلك الحقيقة التي أرادها وعمل من أجلها خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين، والنائب الثاني، وكل قيادات الدولة، والتي تجعل من حضن الوطن حضنا (أموميا) لأبنائه كافة، وبالأخص أولئك الذين حرموا من نعمة مشاعر الأمومة، لا على سبيل البديل، وإنما بمعيار المسؤولية الدينية والأدبية والوطنية، وهو أمر بالغ الدلالة على الصعيد الإنساني بما يكفي لتجسيد ذلك العنوان العريض الذي وضعه القائد والملك والأب لعلاقته بأبناء شعبه بمختلف أطيافهم وظروفهم، حيث لا تنكفئ أيّ فئة بسبب ظروفها عن مستوى العيش الكريم الذي يسعى الملك الإنسان لتحقيقه لكل أبناء وطنه، وبما ينعكس على الاستقرار الاجتماعي والنفسي والمعيشي لمثل هذه الفئة العزيزة، ويؤسس لمستقبلهم ليكونوا أعضاء فاعلين وصالحين لأنفسهم ولمجتمعهم.
إن رعاية الدولة لطفولة اليتيم مسؤولية دينية وأخلاقية وحضارية كبرى، وهناك الكثير من الدول المتقدمة تستخدمها كمؤشر حضاري لمعدلات القيم والمسؤولية الاجتماعية، غير أن الالتفات إلى ما بعد سن الطفولة لقراءة واقع الظروف الخاصة لهذه الفئة، لا بد أن يكون عملا استثنائيا لا يليق إلا بالقادة الاستثنائيين الذين رفعهم حسهم الإنساني إلى ما فوق محددات السن، لتمتد هذه الرعاية إلى ما هو أبعد من ذلك، ولتتعامل مع الظروف ذاتها.. لا مع السن وحدها، في خطوة من أنبل خطوات الاحتضان الذي لا تتكفل به في العادة إلا عاطفة الأبوة والأمومة، وهو ما يُعطي هذا الأمر الملكي الكريم بُعده الإنساني الكبير، ويرفع قيمته الأدبية إلى أرقى مراتب الحس الإنساني الذي أصبح سمة عامة وأصيلة.. تنفرد بها قيادة هذا الوطن عما سواها في كل ما يتصل بالشأن الإنساني والاجتماعي، وفي حضور مدهش يظل الإنسان هو الحاضر الأكبر فيه، لأن من يُمسك بدفة القيادة رجل بأخلاقيات وامتيازات عبد الله بن عبد العزيز.. الملك والقائد والزعيم والأب الرؤوف قبل كل شيء وأي شيء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي