أحادية الرأي
لا يمكن أن تسيطر على من تشرب حب ''الأب الروحي''، إلا بقوى معاكسة أشد وهجاً. فلو كان الطالب متيما مشغوفا بـ ''ذكاء'' معلم الرياضيات، لا يمكن أن تجادل الطالب على خطأ معلمه إلا بإظهار خطأ المعلم من الراسخين في العلم، كالفائز بجائزة نوبل للرياضيات مثلا، لأن المنطق - أحيانا - ضبابي ونسبي ويمكن التلاعب به. وعندما ينصاع أحدهم لفكر ما وينبهر بمنطقه وسلاسة عرضه وغيرها من الظروف التي تساعده لأن يكون بطلا، يكون من الصعب الاتكاء على الأريكة وإظهار مكامن الخلل في طرح هذا ''المبهر''... لابد من إبهار أشد وميضا من مصدر أعنف ضوءاً. وإلا باءت المعادلة بالفشل. الثوريون في كل مكان في العالم لهم قدرة ''إبهارية'' و''كريزما'' ترفع من درجات قبولهم ولو هرطقوا، فكل ما يحتاجون إليه هو دغدغة المشاعر ليصرخ الأتباع بزئير لا يكل ولا يمل..السؤال الحائر الذي لابد من تمعن فيه هو كيف يمكن إسقاط مصداقية هذا وذاك من ''المبهرين'' وتجفيف منابع تجنيد الرعاع؟
هناك جوابان. الجواب الأول السهل سطحي لأنه متشنج أو متشنج لأنه سطحي، فأصحابه لديهم الحلول الجاهزة عبر الاستعانة بقائمة تشبه قائمة وجبات ماكدونالدز، وطلب ''وجبة رقم 2 مع الجبن والكتشب'' ويخرج لك تحليلا طُبخ في ثوان بالمايكرويف وهو متعدد الطبخات وكل شيء يخطر في ذهن المحلل ''الجائع''. يساعد على بقاء هذه المدرسة ''الماكدونالدية'' أن الأصوات الثورية أكثر قدرة على الإبهار من الأصوات العاقلة، فهم يقابلون التشنج بالتشنج، وللتشنج بريق يعلو وهج الاتزان ولا سيما أن المتشنجين يجدون الطريق ممهدا بالورد - أحيانا - متى ما أرادوا التغيير، والشواهد كثيرة، فتجد التقديم والاحتفاء والمكاسب المعنوية والمالية تصب في خانة من ابتدأ متهورا ثم أسعفه الحظ - والخبث ربما - لينقلب إلى الساحة الأخرى فيتكسب من الجهتين.
الجواب الآخر الأعمق هو في حرية الرأي الغالية الثمن، عبر إظهار الدعم لأصوات الاتزان لتظهر ما في مخزونها. أقول غالية الثمن لأنها ليست دوما تأتي وفقا لما نهوى. فقد تحمل حرية الرأي يوما من الأيام ما لا يحوز على الرضا، وهذا شيء طبيعي، ولكن لرفع مصداقية الإعلام ولرفع شعيرة حرية الرأي، يجب أن تقبل بصندوق حرية الرأي بكل محتوياته، إذ يستحيل انطلاق الأصوات في جو حر دون دفع ضريبة سماع ما لا يعجب، لأنه لا يمكن تجزئة ''الحرية''. فهي قطعة زجاجية واحدة، خذها كلها أو دعها كلها. أي محاولة لاجتزاء أي مكان فيها، تعني تهشمها. فصوت الحرية لا يمكن تكييفه وفق الأهواء، وإلا اختار الظل والموت في صومعة نائية... أو الغضب. هذه الخلفية مدركة في اللاشعور الإنساني بشكل أو بآخر، فأنت لا تتخيل مفكرا حقيقيا يمكن أن ينظر ويحلل في كل شيء وفقا لما تهوى، بل تتوقع منه شدة هنا أو ارتخاء هناك، موافقة هنا وممانعة هناك، بشكل لا يمكنك التنبؤ به على وجه الدقة دائما. هذه المزية اللاتنبؤية - إن صح التعبير - المتسلحة بالدعائم العقلية، تمنح هذا الصوت مصداقية حتى لو اختلفت معها، وحتى لو كانت المنطلقات غير منطقية من وجهة نظر أخرى.
ولهذا، تظهر أهمية حماية ودعم حرية الرأي حتى تكون هناك مصداقية لما يطرح في المجتمع، ويجب تحمل الثمن المصاحب وهو إمكانية أن تخرج بعض الأصوات بشكل غير مقبول. ولكن خروج الأصوات العاقلة دائما سواء اتفقنا أو اختلفنا معها أمر أعظم أهمية بمراحل من الاتفاق أو الاختلاف في قضية تأتي وتذهب ويأتي غيرها؛ فالقضايا متغيرة، ولكن الأسس والعوامل التي تقوم بتوجيه الرأي العام مترسخة وتزداد ترسخا بإفساح المجال أمام الأصوات المخالفة قبل الموافقة. بالطبع سيخالط تلك الأصوات همسات طفيلية، وقد لا يستسيغ المجتمع بعض الانتقادات أو المواجهات التي لم يعتد حدوثها. ولكنه أمر صحي سيعتاده المجتمع وسيجني خيراته على المدى البعيد.
وكلما عكس الإعلام هذه الفكرة كان الإعلام أقرب إلى النفوس، وأكثر تأثيرا ومصداقية، وهي اللبنة الأولى للتأثير وتسيير الرأي العام وتجفيف منابع الجنون، ولكي يحدث هذا، فلابد من المبادرة إلى نشر الآراء والأفكار بحرية، ونشر الردود عليها وتفنيدها لخلق مناخ صحي يمكن الإعلام من أداء مهمته في المشاركة والتأثير في توجه الرأي العام، لا أن يكون الإعلام هو المهووس الأول بكبح تلك الحرية. فمثلا، بدلا من حشد الآراء دعما لفكرة استزراع الربيان في ''رماح''، حتما سيزيد من قبول الفكرة لو قامت وزارة الزراعة بعقد مؤتمر تلو المؤتمر لمناقشة النظريات الزراعية باختلاف مشاربها، وأن تطرح وجهتي النظر في الإعلام بكل مصداقية؛ بعد هذا، حتى لو مضت وزارة الزراعة في مشروعها، فهي تمضي بخطى أكثر ثقة، خطى تقول لقد وازنت بين وجهتي النظر، واخترت الأفضل وفقا لمعايير موضوعية أعتبرها أكثر ثقلا من غيرها...وكل الاحترام والتقدير لمن يخالفني.
معايدة:
وكل عام وجنودنا بألف خير، عجل الله برجعتهم إلى أبنائهم وأهلهم، وجزاهم الله أعظم الجزاء على ما يفعلون من أجل وطننا حماه الله من كل شر.