هيمنة الحكومات أهم أسباب تردي دور الوقف الإسلامي
تعالت في الآونة الأخيرة أصوات تنادي بضرورة الالتفات للأوقاف الإسلامية كمخرج من تداعيات الأزمة المالية العالمية بالنسبة للدول الإسلامية. ويرى هذا الفريق في الأوقاف الإسلامية طوق النجاة؛ نظراً لأنها ستحمل عن كاهل موازنات الدول عبئاً كبيراً يتعلق بقضايا اقتصادية ذات بعد اجتماعي مثل مكافحة الفقر والبطالة. ومن هنا ظهرت دراسات عديدة تدعو لإحياء دور الوقف الخيري وضرورة إخضاعه لمعايير محاسبية تتفق مع طبيعته الخاصة. وفيما يلي عرض للتوصيات التي خرجت بها الدراسات المشاركة في منتدى قضايا الوقف الرابع الذي عقد في الرباط، وكذلك دراسة قدمت بكلية التجارة بجامعة الأزهر تتناول قضايا الرقابة الداخلية على الأوقاف.
وضعت دراسة حديثة بجامعة الأزهر إطاراً مقترحاً للرقابة الداخلية على الوحدات الوقفية الخيرية الإسلامية. وعمد هذا الإطار إلى الاستفادة من الأسس المحاسبية الحديثة لتحقيق أكبر استفادة من الوقف وتلافي أية سلبيات إدارية تتسبب في ضياع تلك الأموال أو عدم وصولها إلى مستحقيها، ومن ثم عدم تحقق الغرض من الوقف.
وفي حوار مع الباحث الاقتصادي أ/ أحمد تمّام –معد الدراسة التي نال بها درجة الماجستير - شدد على أن هناك العديد من الخطوات التي يجب اتخاذها لإحياء دور الوقف لكي يسهم في مكافحة الفقر والبطالة في المجتمعات الإسلامية، بما يساعد في مواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية.
ما مدى تأثر الأوقاف الإسلامية بالأزمة المالية العالمية؟
- الأوقاف الإسلامية هي نظام مالي إسلامي يقوم على حبس العين والاحتفاظ بالأصل، وتقديم منافع اجتماعية في مجالات متعددة. وكأي نظام مالي فإنه يتأثر بالأحداث والأزمات سواء أكانت محلية أو عالمية. وبالنسبة لتأثير الأزمة المالية في الأوقاف يجب أولاً التذكير بأن الغرب عرف نظم مالية مشابهة للوقف مثل الـ endowment والـ trust. وهي نظم تقوم على تقديم المنافع حسب رغبة الواقف. ونظراً لأن معظمها عبارة عن ودائع بنكية أو أسهم موقوفة أو سندات، فقد تأثرت بالأزمة المالية إذ فقدت غالبيتها قيمتها الأصلية نتيجة لانهيار البنوك في حالة ما إذا كانت ودائع، أو قيمتها السوقية في حالة كونها في شكل أسهم أو سندات. وعلى سبيل المثال فقد فقدت الأوقاف المرصودة للإنفاق على التعليم في أمريكا نحو 40 في المئة من عوائدها نتيجة للأزمة المالية العالمية. وعلى سبيل المثال فقد تقلصت عوائد الوقف المخصصة للإنفاق على جامعة هارفارد – أغنى جامعة في العالم - بنسبة 22 في المئة لتصل العائدات إلى أسوأ معدلاتها خلال العقود الأربعة الماضية. أما الأوقاف في الدول الإسلامية فقد كان تأثيرها محدوداً؛ نظراًَ لأن معظها عبارة عن وقف أراضٍ أو عقارات. ويندر وجود وقفيات نقدية نظراً لأن جمهور الفقهاء يمنع ذلك عدا متأخري المالكية الذين يجيزون وقف النقود.
وماذا عن الصكوك الوقفية؟
- هناك أكثر من شكل للوقف؛ فقد يكون الوقف فردياً بمعنى أن يقوم به شخص واحد أو أن يكون جماعياً يشترك فيه مجموعة من أهل الخير القادرين على إنشاء وقفية. ويبدأ إنشاء الوقفية بفكرة تحديد الغرض الوقفي كإنشاء مستشفى مثلاً. وبعدذلك يبدأ التنفيذ الذي يتطلب ترجمة ذلك في صورة كمية؛ فيتم تحديد القيمة المطلوبة شهرياً للإنفاق على الغرض الوقفي، ثم تحديد القيمة السنوية. وعليه وفي حدود معدل العائد على الاستثمار يتم تحديد المال الوقفي الذي يدر عائداً يكفي لهذا الغرض. ويتم تقسيم هذا المبلغ المطلوب إلى أسهم تسمى صكوكاً وقفية يتم طرحها على المسلمين لبيعها وتمويل المشروع الوقفي. ومن أهم مزايا هذا النظام تكوين كيانات اقتصادية كبيرة قادرة على خدمة شريحة كبيرة من المسلمين المحتاجين في مجالات متعددة كمساعدة المرضى، وتعليم الفقراء، والتعليم الديني، ومساعدة غير القادرين على الزواج وغير ذلك.
ما أبرز ملامح مشكلات الأوقاف القائمة الآن؟
- من أهم المشكلات التي تواجه الأوقاف في الوقت الراهن استخدام نظم محاسبية خليط من النظام المحاسبي الموحد والمحاسبة الحكومية، وهو ما لا يلائم الوقف، وكذلك ضياع معظم أموال الوقف والاعتداء عليها نتيجة لكثرة القوانين والتشريعات وتشعبها. ومن المشكلاات المهمة الإدارة الحكومية المركزية، إذ إن الأصل أن تكون النظارة على الأوقاف للواقف أو من يعينه. ومنها عدم توافر العناصر الأساسية للرقابة الداخلية، التي من شأنها تقويم أداء العاملين والموازنات التخطيطية والمؤشرات المالية وغير المالية للأداء، ومؤشرات رضا العميل. كما تبين غياب نظام المعلومات والتوصيل؛ فلا يوجد قسم للمراجعة الداخلية أو لجنة للمراجعة أو قسم للرقابة الشرعية، فضلاً عن عدم الاهتمام بالعنصر البشري من حيث الاختبار أو التدريب أو التأهيل.
كيف يمكن إحياء الأوقاف الإسلامية لتعود إلى سابق عهدها في مكافحة المشكلات الاقتصادية الاجتماعية مثل الفقر والبطالة؟
- يعتبر الوقف من الصدقات، إلا أنه يمتاز عن باقي أنواع الصدقات في أنه دائم ومستمر. ولكي يعود الوقف إلى سابق عهده في خدمة المسلمين والقضاء على الفقر والبطالة يجب على الدول الإسلامية اتخاذ عدة إجراءات مهمة:
أولها أن يتم تنظيم الوقف بعيداً عن سلطة الحكومات نظراً لما ظهر من فشل الإدارة الحكومية في مجال قطاع الأعمال، واعتبار الأوقاف أموالاً خاصة تدار بطريقة معينة. وقد أدى إطلاق أيدي الحكومات في إدارة الأوقاف إلى إحجام المسلمين عن وقف أموالهم، حيث تولد لديهم إحساس بأن الأوقاف يتم تأميمها واستخدامها في غير الأغراض التي حددها الواقف. والقاعدة أن شرط الواقف كنص الشارع لا يجوز مخالفته إلا إذا خالف نصاً شرعياً. كما يجب إعادة النظر في القوانين والتشريعات التي تعوق الوقف، وتنظيمها في ضوء آراء الفقهاء، ووضع نصوص صارمة للحفاظ على أموال الوقف. كما يجب القيام بحملات توعية في كافة وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء للتوعية بأهمية الوقف وحث المسلمين على الاشتراك في وقفيات خيرية أو وقف جزء من ممتلكاتهم.
ما أساليب الإدارة الحديثة التي يمكن تطبيقها في إدارة الوقف؟
- لكي يتم النهوض بالوقف يجب الأخذ بنظم الإدارة الحديثة، والإسلام لا يمنع ذلك؛ ما يؤدي إلى الحفاظ على أموال الوقف، وضمان استمراره، ووصول العائد إلى مستحقيه، وضمان جودة الخدمة. ومن هذه الأساليب استخدام نظم محاسبية متطورة وأسس لا تتعارض مع الفقه الإسلامي؛ لما للوقف من طبيعة خاصة. وكذلك استخدام تكنولوجيا المعلومات والحواسب في إدارة الوقف، واستخدام مؤشرات رقابة أداء حديثة مثل محاسبة المسؤولين، والمؤشرات المالية وغير المالية. ومنها استخدام الموازنات في التخطيط. وضرورة وجود لجان مراجعة لمراقبة قرارات مجلس إدارة الأوقاف. ومن أهم أساليب إدارة الوقف ضرورة وجود هيئة رقابة شرعية لتحقيق الاطمئنان على سلامة المعاملات المالية للوقف من الناحية الشرعية، وتحقيق الالتزام بأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، والتأكد من التزام العاملين في مجال الوقف بالأحكام الفقهية للوقف وطمأنة الأطراف المعنية – الواقف والموقوف عليهم - بأن حقوقهم مصونة. وقد نتج من غياب هيئة الرقابة الشرعية استثمار بعض الأموال بطرق غير شرعية أو مخالفة لشروط الواقف. ومن أساليب إدارة الوقف أيضاً تدريب العاملين من الناحية الشرعية، ومراجعة القوانين المنظمة للوقف والنظم واللوائح والتعليمات الإدارية وأنها أعدت طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. ومن الأساليب الحديثة التي يجب تطبيقها عند إدارة الأوقاف أن يكون اختيار العاملين في الوقف من العدول.
هل هناك شروط أخرى يجب توافرها في العاملين على الأوقاف؟
- الفكر المحاسبي الإسلامي وضع مجموعة من القواعد والأسس التي يجب توافرها في العاملين في الوقف ومنها:
أن يكون العامل حراًَ، عاقلاً، صادقاً، أريباً، فقيهاً، عالماًَ بالله تعالى، كافياً فيما يتولاه، أميناً فيما يستكفاه، حاد الذهن، قوي النفس، له جرأة يبت بها الأمور على حكم البديهة. كما يجب أن تكون فيه تؤدة يقف بها فيما لا ينصرح على حد الرؤية، ولا يحتشم عن الرجوع عن الغلط. ويجب أن يكون شديد الأنفة، عظيم النزاهة، كريم الأخلاق، لا يقبل هدية. وهذه السمات ضرورية، إذ لا يمكن الفصل بين التكوين الشخصي والتكوين المهني (الدراية المهنية. ويتضح هذا من قوله تعالى: “إن خير من استأجرت القوي الأمين”؛ فالقوة تشير إلى الكفاءة، والأمانة تشير إلى القيم الإيمانية والأخلاق السلوكية.
ما التنظيم المحاسبي المقترح للوقف الذي تقدمه الدراسة؟
- المحاسبة المالية من المنظور الإسلامي تشمل تعيين الحقوق والكشف عن الوضع المالي للمنشأة ونتائجه بكيفية يراعى فيها التمييز بين الحلال والحرام. والنظام المحاسبي المقترح يتكون من:
أسس محاسبية تشتمل على الوحدة المحاسبية وهي المال الوقفي، والشخصية الاعتبارية للوقف، والاستمرارية؛ فالوقف يقوم على التأبيد؛ فهو لا يباع ولا يورث ولا يوهب. كما تشتمل على الفترة المالية بناءً على الاستمرارية، حيث يستلزم ذلك تقسيم حياة الوقف إلى فترات مالية، والقياس العيني والنقدي لمعاملات الوقف، والمقابلة بين الإيرادات والمصروفات لتحديد الفائض، وكذلك الإفصاح لبيان معاملات الوقف في صورة قوائم مالية. وتتكون عناصر النظام المحاسبي المقترح من عنصرين: الأول هو المستندات والدورات المستندية (مدخلات العملية المحاسبية) وتشمل الدورات المستندية للموارد والإيرادات والنفقات والمصاريف والتسويات.
أما العنصر الآخر فهو المجموعة الدفترية للوقف (وعاء تشغيل العملية المحاسبية) وتشمل دفاتر اليومية لإثبات عمليات الوقف ومن أهمها دفاتر الموارد، والإيرادات، والمصروفات، والتسويات بالإضافة إلى اليومية المركزية، ودفاتر الأستاذ ومن أهمها دفاتر أستاذ الأعيان، والأستاذ العام.
كما يشتمل التنظيم المحاسبي المقترح على دليل حسابات الوقف وهو قائمة بأسماء الحسابات المستخدمة في النظام المحاسبي والرموز المستخدمة لإشارة إلى هذه الحسابات؛ والقوائم والتقارير المالية (مخرجات النظام المحاسبي)، ومن أهمها قائمة إيرادات ومصروفات الوقف، وحساب مصارف الوقف، وقائمة أنشطة الوقف، وقائمة المركز المالي.
#2#
ما الإطار المقترح لقياس ورقابة الأداء في الوقف؟
- تعتبر عملية تقويم الأداء في الوقف مهمة؛ لضمان استمرار نجاح الوقف، حيث يمكن المحافظة على الأداء المتميز وتطويره، والتعرف على الأداء الضعيف ومعرفة أسبابه ومعالجتها. وتعتبر عملية تقويم الأداء صعبة في الوقف الخيري لافتقاره إلى المقياس النهائي لنجاح منظمات الأعمال وهو مقياس الربح أو حصة السوق، وغياب عنصر الملكية الخاصة وافتقار رد فعل المستفيدين وضعف نظم المعلومات المحاسبية المطبقة.
ومن أهم مقاييس الأداء المقترحة والملائمة للوقف الخيري التي عرضتها الدراسة محاسبة المسؤولية؛ فيعتبر كل شخص أو مجموعة من الأشخاص مسؤولين عن تحقيق أهداف معينة؛ وقياس الأثر وهو مقدار المنافع التي يقدمها الوقف للمجتمع؛ والمؤشرات غير المالية مثل تعدد وتنوع الأعيان الموقوفة ونمو عدد الأوقاف وما إلى ذلك؛ والموازنات التخطيطية ومن أهمها موازنة تكوين وإنشاء الوقف وموازنة موجودات الوقف وموازنة إيرادات الوقف والقوائم التقديرية للوقف وغيرها.
بصفة عامة.. ما أغراض الوقف؟
- تعددت أغراض الوقف التي نشأ من أجلها في الإسلام. ومن هذه الأغراض:
الوقف لرعاية المرضى، وذلك بإنشاء المستشفيات، ووقف أراضٍ وعقارات عليها لتدر عائداً يتم الإنفاق منه على الأطباء والمرضى. ومن أمثلة ذلك البيمارستانات التي أنشئت في العهد العثماني. وهناك الوقف في مجال التعليم؛ فقد وجدت أوقاف على خدمة التعليم كأوقاف الأزهر في مصر والكتاتيب والمدارس مثل المدرسة المستنصرية في بغداد. وتوجد أوقاف المساجد والوقف على الحرمين الشريفين. وقد كان الأخير يخصصه الأمراء والسلاطين في عهد المماليك والعثمانيين حتى صار يعرف باسم بعض السلاطين كوقف مرادية (نسبة لمراد الأول) وأحمدية (أحمد الأول) ومحمدية (محمد الثاني). وهناك الوقف على الجهاد والرباط في سبيل الله لرعاية المجاهدين وأسرهم.
هل توجد فروق بين الوقف في الإسلام والنظم التي تشبهه في الغرب؟
- يقول الشافعي إن الوقف نظام إسلامي لم يعرف في جاهلية أو غيرها. والوقف في الإسلام مشروط بأن يكون الغرض منه مباحاً شرعاً. أما النظم الغربية المشابهة فقد يكون الوقف على محرم أو حيوان، وقد يستمر بطريقة غير جائزة شرعاً كالتبرع بأموال من مصانع الخمور مثلاً.
ولكن فيما يتعلق بالوقف الإسلامي فإنه يجب أن تكون الغاية جائزة والوسيلة جائزة والغرض مباحاً شرعاً .