ضرورة النقل العام قبل أن نختنق
لقد بدأت مدننا تختنق بالازدحامات المرورية وأصبحنا نحن نختنق معها. الاختناقات المرورية أصبحت حديثا وهما ومعاناة للجميع. وهذا العام بالذات نشهد زيادة أكبر من العادة من الازدحامات عند التقاطعات, خاصة خلال أوقات الذروة قبل صلاة الظهر ووقت انصراف الموظفين, وهي اختناقات قاتلة للوقت والأعصاب. وبعض التقاطعات تضيء الإشارة الضوئية الخضراء عدة مرات وتنطفئ دون تحرك أي سيارة بسبب ازدحام السيارات داخل التقاطع نفسه.
ومن الطبيعي أن نجد مثل هذه الازدحامات في مدينة شوارعها وطرقاتها صممت منذ سنوات وبسعة كانت كافية حينذاك. ولكن هذه الطرق لم تراع زيادة اتساعها لتتمشى مع النمو السكاني للمدن, فمدننا تكبر وتزداد كثافة سكانها وأنشطتها يوميا بينما الطرق هي هي كما كانت منذ عقود.
وتخطيطيا هناك عدة طرق لحل مثل تلك الازدحامات, الأول أن تتم توعية المواطنين بالحد من الرحلات غير الضرورية مثل تسكع الشباب أو كبار المراهقين ومنع سيارات الأجرة من الدوران في الطرق ومزاحمتنا, وذلك عن طريق تخصيص مواقف لسيارات الأجرة. الثاني أن يتم رفع سعر الوقود حتى لا يكون بهذا الرخص الذي يشجع على استعمال السيارات دون سبب أو حاجة, فانخفاض سعر الوقود أحد الأسباب التي تجعل الشباب والمراهقين لا يترددون عن مزاحمتنا دون حاجة, فالأسعار يجب أن ترفع على الجميع مع مراعاة محدودي الدخل الذين يمكن إيجاد آلية لجعلهم يستفيدون منها منفردين.
الثالث أن يتم توفير وسائل النقل العام (قطارات وحافلات وقطارات أنفاق...) وبمستوى لائق ومريح يجتذب الجميع لاستعماله, وبذلك يخف الضغط على الطرق, وأنا على يقين أن وزارة النقل أنهت مجموعة من الدراسات والاستراتيجيات التي يجب أن يبت فيها ويبدأ في تنفيذها فورا. مع ضرورة توعية المواطنين باستعمال النقل العام وتخصيص محطات موزعة على المدينة ومسارات خاصة للحافلات في طرقنا ليحس من يستعمل حافلة النقل العام أنه سيصل قبل غيره, وبذلك تزداد شعبيتها. وأن نستفيد من تجربة الإمارات, فهي أقرب مثال يناسبنا.
الرابع وهي حلول تخطيطية منها ألا يسمح بتجميع الوزارات أو المباني الخدمية قريبة من بعضها وفي مناطق الازدحامات, بل يتم توزيعها على أطراف المدينة للحد من الازدحامات في وسط المدينة.
والحل التخطيطي الآخر هو أن يتم تنطيق واحتواء الحركة ليكون السكن قريبا من العمل. وسبق أن أشرت في مقالات سابقة وطلبت من وزير التربية والتعليم مساعدتنا على حل الاختناقات المرورية عن طريق التفكير في تغيير السياسة الحالية من دعم المدارس الخاصة لنتحول إلى دعم المدارس الحكومية داخل الأحياء والرفع من مستواها ومستوى المعلمين كما وكيفا بحيث يتوجه سكان المدينة إلى تسجيل أبنائهم وبناتهم في المدارس داخل الحي الذي يسكنونه. وبذلك نحتوي جزءا كبيرا من الحركة المرورية داخل الأحياء, بل قد لا نحتاج إلى سيارات وسائقين لتوصيل أبنائنا ومدرساتنا إلى مدارسهم وجعلها مركزا تعليميا واجتماعيا ويستفاد من مبانيها لفترة بعد الظهر والمساء لنشاطات اجتماعية ورياضية لأبنائنا وتتكامل مع مجهودات الأمانة لمراكز الأحياء.
إن احتواء الطلاب في المدارس الحكومية داخل الأحياء له أثر مباشر في حل بعض الاختناقات المرورية والتوفير في مجهودات القطاعات الأخرى, إضافة إلى الحد من العمالة الأجنبية التي هي الشغل الشاغل للدولة وللعاملين على إدارة المدن, لذلك فإن وجود مدارس حكومية على مستوى جيد من البناء والتجهيز يعمل فيها كفاءات مؤهلة وبمستوى عال من المهنية ولتكون منافسة للمدارس الخاصة سيساعد على احتواء حركة الطلاب داخل الحي الواحد فيجبر الجميع على تسجيل أبنائهم والمعلمين والمعلمات للعمل في الأحياء نفسها التي يسكنونها. وبذلك نوفر مشكلات نقل المعلمات داخل المدن وخارجها ونحد من حركة السائقين خارج تلك الأحياء لنقل الطلاب في طرق المدينة، ما يخفف من عدد السيارات في طرقات المدينة وبالتالي يخفف من الاختناقات المرورية.
كما أن وجود المدارس داخل الحي سيغني المواطنين من الحاجة إلى السائقين والخدم المرافقين لنقل أبنائهم أو بناتهم سواء كانوا طلابا أو مدرسين, ما سيكون له أثره الإيجابي في التوفير على المواطن والاقتصاد الوطني. ولنا أن نتصور الآثار الإيجابية المترتبة على ذلك, وهي كثيرة, منها ما تؤدي إليه من توفير للاقتصاد الوطني والحد من مشكلات العمالة وتصغير حجم المدن فتقل مساحات وعدد الورش وتقل الحاجة إلى توسيع أو فتح طرق إضافية. وتخفف من عدد الموظفين في المرور والمستشفيات والورش وشركات التأمين وعدد الأسرّة في المستشفيات وتخفف وتوفر استهلاك الوقود والتلوث والحوادث.
يتضح لنا أن مشكلات الاختناقات سببها انعدام التخطيط والتنسيق في مدننا, بينما تكلفة تلك الازدحامات كبيرة تدخل فيها أجزاء من ميزانيات عديد من الجهات الحكومية مثل المرور ووزارة المواصلات والأمانة, كما تعاني حوادثها وزارة الصحة وكثير من الأسر بسبب الحوادث والتلوث البيئي وتخصص كل منها ميزانيات ضخمة لذلك. ولكن لو وفرنا تلك الأموال أو جمعناها وأعطيت لوزارة التربية والتعليم لتقوم بالرفع من مستوى المدارس العامة وسط الأحياء لدرجة تمكن سكان الحي من تسجيل أبنائهم في تلك المدارس بدلا من مزاحمة الآخرين صباحاً وظهراً لتوصيل أبنائهم إلى مدارس خاصة في أحياء بعيدة لخف جزء كبير من الازدحامات والحوادث المرورية التي أيضاً تكبد وزارة الصحة تجهيزات مكلفة لمعالجة المصابين ومشكلات التلوث البيئي. الحلول كثيرة ولكن أملي كبير أن يتم السعي وبسرعة لتدشين مشاريع وأنظمة النقل العام قبل أن نختنق وتختنق مدننا. ومهما كلفنا الموضوع فإن آثاره الإيجابية في المدن والمجتمع أكبر بكثير مما نتصوره.