قيادتنا للسيارات.. هل هي قيادة أم سباحة؟
يبدو لي أننا أناس متميزون عن غيرنا في طريقة قيادتنا السيارات, فنحن نتصور أن الطرق سواء السريعة أو داخل المدن مثل البحر الكبير, فعلى الرغم من وجود علامات وخطوط وعيون قطط لتحديد المسارات إلا أننا إما عميان وإما نعدها مجرد زينة. معظمنا يقود سيارته وكأنها سفينة تموج فوق تلك المسارات وحسبما يراه مناسبا له. ويبدأ بالسباحة الموجية, فهو يسبح بسيارته بين صفوف السيارات حتى يصل الإشارة المرورية. وقد يحترمها أو يتعداها ليصف أمام السفن الأخرى مثل البارجة الحربية. والأشطر أو الأجدع هو من يقطع ويخالف إشارة المرور. والآخر أحيانا يضع المسار في منتصف السيارة فهو بذلك وليس فقط طمعا أو حسدا للآخرين، وإنما هو يملك الطريق وله الحق أن يختار ما يشاء وعندما ينتهي ويقرر إلى أين سيتجه ساعتها يرمي بالفضلة على الآخرين. والآخرون يخرجون من الطرق الفرعية للطرق الرئيسة دون توقف لمعرفة من في الطريق بل إن دورانه للدخول يتعدى المسارات المخصصة له فيتعداها للمسار الثالث أو الرابع وكأنه في قارب لا يستطيع التحكم في دفته. والجميع لا يعترفون باستعمال إشارة التوجه لليمين أو اليسار(تغير المسار) بل إنه لو استعملها فإنه الوعيد من السيارات التي خلفه لتسابقه حتى لا يخرج من مساره. والآخرون يعتقدون أن رمي النفايات من السيارة حق مشروع, فهي ستطفو على مياه البحر ولن تؤثر في السفن الأخرى, منتهى الاحترام للآخرين. وأصبح التخاطب بيننا بالأبواق سواء للشتم أو لإلقاء التحية! بينما في معظم دول العالم يجمع الناس على أنهم ليعيشوا ويتعايشوا مع بعضهم في وطن واحد فإنه لا بد أن يحترموا بعضهم ويتعاونوا فيما بينهم لتسهيل أمورهم, وذلك عن طريق الاحترام المتبادل لحقوق الآخرين, ودون احترام الآخرين لن يعيشوا. ومن لا يرحم لا يُرَحم ومن لا يحترم لا يُحَترم.
فوضى قيادة السيارات كشفت أخلاقياتنا ومدى استهتارنا بالوطن والمواطن, ومدى غرقنا في محيط من النفاق الاجتماعي الذي نعيشه في الوقت الذي نعتقد أننا أفضل البشر وفي دولة الإنسانية. والمشهد الذي يزعجني أكثر هو رؤية مجموعة من المنافقين عند أبواب الخروج من قاعة مناسبات أو طعام عشاء وهم يلزمون ويحلفون على بعضهم ويؤثرون على أنفسهم هذا الكرم العظيم بالسماح للآخرين بالخروج قبلهم, ثم تجد المنافقين أنفسهم بعد أمتار من الموقع على الطريق أو عند الإشارة وهم متلطمون أو كأنهم لم يروك أو يتجاهلونك فيسابقونك ويتخطونك بل قد يزاحمونك للوقوف أمامك عند الإشارة حتى لو اضطرهم الأمر إلى أن يجعلوك تصطدم بالرصيف أو المارة أو بالسيارات المجاورة. إن أنواع النفاق الاجتماعي ملحوظة في كثير من تصرفاتنا الاجتماعية مع زوجاتنا وأبنائنا والخدم، ولكن قد تكون تصرفاتنا وسلوكياتنا في قيادة السيارات أكبر دليل عل تفشي هذا المرض بيننا, وهي دليل واضح على أشد أنواع النفاق في أخلاقياتنا. وهذا المرض تكشفه الطريقة التي نقود بها سياراتنا بتهور وطيش ونتعامل مع سائقي السيارات الآخرين, التي فيها كبار السن أو الأب مع عائلته أو المريض، فتجدنا لا نحترمهم بل قد نكرههم ونعدهم أعداء لنا في الطريق. يا ليتنا لا نلزم على الناس وننافقهم أكثر من اللازم في وجوههم بينما خلفهم ومن وراء ظهورهم نحن شياطين ووحوش نقطع بعضنا. ومتى سنخفف من هذا المرض والنفاق والتطرف في الاتجاهين لنصبح أمة وسطا؟
حتى شوارعنا وأحياءنا السكنية أصبحت مواقع حربية مثل معركة ذات الصواري ومعارك قبلية وعصبية, وكل يعتقد أنه يملك حق الطريق وحق المرور قبل الآخرين وكأنه اشترى الطريق وليس للآخرين أي حق فيها, فهو من القبيلة الفلانية. وكل تراه مستعجل وطاير سواء لسبب مهم أو لغير سبب، فالموضة هي السرعة وتخطي الآخرين وعدم الوقوف بنظام في صف السيارات عند الإشارة، بل إن (الجحلط) والمرضى نفسيا ومدمني المخدرات أو من لديهم مركب نقص تجدهم يتجاوزون الجميع ليأتوا من الخلف ويصطفوا أمامهم بعد خط المشاة عند الإشارة وكأنهم يقولون للجميع: نحن أهم منكم أو نحن أسيادكم!
صحيح أن هذه الظاهرة وفوضوية القيادة قد تكون موجودة في بعض الدول الأوروبية ولكن على الأقل هؤلاء المسرعون فيها تجدهم أشخاصا منتجين ومتجهين لأعمالهم أو مصانعهم ويهمهم الوقت في الإنتاجية لمصلحة الوطن, أما نحن فنسرع ولكننا لا ننتج بل نستورد منهم لنتسكع في الاستراحات ولعب الورق واستنزاف محصول الرز والخرفان العالمي.
قيادة السيارات لدينا أصبحت دليلا على مدى حبنا لبعضنا بعضا ومدى تمسكنا بديننا “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”, فنحن في حرب ومعركة ينتصر فيها عادة الجهلة والمتهورون, وكأننا أعداء, ونتجادل بالأبواق لنزعج الآخرين الذين ليس لهم دخل في الموضوع. حتى السلام أو السب والشتيمة أصبحت بالأبواق.
أصبح المواطن يخاف أن يقف عند إشارة المرور الضوئية وهي حمراء، فقد يأتي من خلفه من هم مسرعون وقد لا يتوقفون للإشارة وعندها يحدث لك ما لا تحمد عقباه. حتى إذا توقفت فإنك ستسمع أصوات الأبواق قبل لحظات من فتح الإشارة الخضراء مع التكبيس بالأنوار العالية, وكأنه يقول لك تحرك يا حمار! ودون احترام حتى لممرات أو عبور المشاة. والأسوأ هو ما يقوم به كثيرون من متابعة سيارات الإسعاف أو المطافئ عندما يسمعون صوت صفارتها. وهي مضايقات يعاقب عليها القانون دوليا. فهم قد يؤخرون وصول المريض في وقته أو المطافئ في وقتها ما يعرض الآخرين للموت, فأين القانون؟ وهل سأثق بقانون يسمح لهؤلاء غدا إذا أصابتني سكتة ـ لا قدر الله ـ أن أطلب سيارة إسعاف؟ أين الحق العام؟ ومن يعاقب هؤلاء؟
حتى استعمال الإشارة لتغيير المسار أصبح يعد إشارة ببدء الحرب لمن هم خلفك بمسافات ليقودوا بأقصى سرعة منعا لك من الدخول في مساره وكأن الطريق حق مكتسب له ولأهله. أو أنانية بعضهم بالقيادة وسط مسارين للطريق ليضع الخط الفاصل من عيون القطط وسط سيارته, فهو يملك المسارين ولن يضيع أحدهما لأي كان. أو من يدخل من الطريق الفرعي ليدخل الطريق العام دون أن يتوقف لرؤية القادمين من اليسار أو اليمين. وعدم احترام المشاة حتى في الأحياء السكنية التي أصبحت طرقها أسرع من الطرق السريعة. تعودت أن أترك مسافة للأمان بيني وبين السيارة التي أمامي ولكن تركي ذلك الفراغ يجعل الذين خلفي يدقون أبواقهم والذين بجانبي في المسار يدخلون علي.
ومنتهى الإزعاج الخطير هو أن ترى من يلصق صدام سيارته بسيارتك على الطريق السريع ويضيء أنواره العالية وأبواقه لتفسح له المجال ليجتازك فهو أهم منك. ولو حاولت التباطؤ، فإنك قد تدخل في معركة وشجار قد يطول إلى إطلاق الرصاص. وهو غير مبال لو اصطدمت سيارتك أو لو ذهبت أنت وأهلك ضحية الموت. الأهم أنه يملك الطريق وأنت وأهلك في الشيطان, فأنت أخرته عن جمعة الشباب في الاستراحة.
أصبحت القيادة لها علاقة بالكرامة والشهامة والعصبية القبلية لمن يحق له أن يملك الطريق. وأصبح الجميع في الطريق أعداء لنا يجب أن توقفهم عند حدهم ليقفوا جانب الطريق ويتركوا الطريق للنشامى.
أستغرب ذلك من أناس يقومون بهذه التصرفات في الوقت الذي نراهم خارج المملكة وفي الخليج العربي يتقيدون ويحترمون الآخرين, فهل مواطنو تلك الدول أهم وأكبر قيمة لدى هؤلاء المستهترين من وطننا ومواطنينا؟ أم أن من أمن العقوبة أساء الأدب؟
هل كشفت قيادة السيارات أخلاقياتنا الاجتماعية؟ وهل هذا المثل على النفاق الاجتماعي فقط يتمثل في القيادة المرورية أم أنه متفش في كثير من عاداتنا الاجتماعية. نحن نلزم على الآخرين لحضور مناسبة الزواج بينما نجد أكثرهم يتمنى لو لم يدع, بل بعضهم يتذمرون عند بقية أصحابهم بأنهم أزعجوا ومضطرون للحضور! أمور كثيرة متفشية لدينا فمتى نصلح أنفسنا؟ فإن الله لا يصلح ما بقوم حتى يصلحوا ما بأنفسهم.
الحل لمشكلة القيادة هو في تطبيق القانون ومعاقبة المستهترين به. ولن ألوم شرطة المرور فهم وسياراتهم أول المستهترين ولم ينتهوا حتى اليوم من إعلان نظامهم الجديد! بل هم يرون هؤلاء المستهترين عند كل إشارة فيتجاهلونهم ويلتفتون إلى المؤدبين ومن نسى ربط حزام الأمان ليعطوه مخالفة. فأي المصيبتين أكبر؟ إن معظم هؤلاء يخافون القانون خارج المملكة ولكنهم يستهينون بنا وبقانون دولتنا الذي لم تطبقه. وهذه الفوضى المرورية عوضا عن كونها مرضا اجتماعياَ، إلا أنها تسبب الخسائر في الأرواح والممتلكات. فتفقد الأسر عائلها ويفقد العائل أسرته بسبب تهاوننا مع هؤلاء المرضى النفسيين والمستهترين بالدولة والمواطن. يبدو لي أن هناك نفاقا اجتماعيا ومجاملة بين المستهترين ورجال المرور!
آمل أن يعذرني القلة المؤدبة التي ما زالت محافظة على أخلاقياتها، على هذا الطرح الذي أعبر به عن غيرتي على هذا المجتمع وحرصي على إظهار الصورة الحقيقية لواقعنا وعسانا نتغير للأفضل. وأن نفهم معنى الحرية وهو أن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين. فأنت حر في أن تقود بسرعة ولكن إذا كانت هذه السرعة ستسبب خطرا على الآخرين فإن حريتك تنتهي هناك. وأنت حر أن ترفع صوت المذياع أو الأبواق ولكن إذا بدأت تصل وتؤذي آذان الآخرين تقف حريتك.