الديون والفائدة والمضاربة

تقبل الله من الجميع الصيام والقيام، وجعل أعيادنا مباركة.
تداخل معي أحد القراء الأفاضل عبر بريدي الإلكتروني معلقا على قول الأستاذ بيرش - الذى جاء في الجزء الأول من مقالتي الموسومة ''اعترافات مدير صندوق تحوط سابق'' - إن لحياتنا الاقتصادية ثلاثة أعداء هم: الديون والفائدة والمضاربة. يقول القارئ إنه بحكم عمله السابق في صندوق التنمية الصناعية يرى أنه من الصعب تعميم هذا القول. وفي ظنه أن الأزمة المالية العالمية اندلعت بسبب المبالغة في ممارسة هذه الأدوات، وقديما قيل كل شيء زاد عن حده انقلب لضده. وأضاف القارئ الكريم متداخلا: معروف أن البنوك التجارية مضى على قيامها ثلاثة قرون أو أكثر دون أن تتسبب في كوارث اقتصادية، بل أسهمت بفاعلية في تدوير الاقتصاد وعملت كوسيط ناجح بين من يملك فوائض الأموال ومن هم في حاجة إليها لتمويل مختلف المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية والصحية من خلال توفير التمويل القائم على توليد الديون. ثم يتساءل: كيف تكون الديون عدوا وقد كانت وما زالت المحرك الأول للمبادلات الاقتصادية في كل دول العالم، بل لولاها ما كان هناك نظام مصرفي أصلا؟ أما عن مخاطر العمل المصرفي فإنه يضيف مؤكدا: إن الإقراض لم يكن في يوم مجردا من المخاطر كما يوحي المقال، وإلا ما أفلست بعض البنوك التجارية، ولا قامت بتجنيب احتياطيات لمواجهة أخطار الديون المعدومة والمشكوك بتحصيلها.
ويضيف متسائلا كيف تكون المضاربة عدوا للاقتصاد ولولاها ما كانت هناك بورصات لمختلف السلع؟ ثم ينهى القارئ الكريم مداخلته معلقا: إن المشكلة - في نظره - ليست في البنوك التجارية وإنما في البنوك الاستثمارية التي اندفعت في عمليات عالية المخاطر، وأخذ مدراؤها يسعون إلى تحقيق أقصى أرباح ممكنة طمعا في أكبر نصيب من المكافآت دون وجود ضوابط حكومية عليهم. بيد أن القارئ يقر في نهاية تعليقه بأن البنوك بانحرافها عن عملها الرئيس أسهمت في رفع أسعار البضائع والمحاصيل وابتكرت المشتقات وتورطت في بيع الديون بين بعضها بعضا دونما تقييم حقيقي لأصولها. انتهى كلام القارئ.
ولهذا القارئ العزيز أقول: لا خلاف على أهمية البنوك في حياتنا المعاصرة، فظهورها كان واحدا من أهم التطورات الاقتصادية في التاريخ الاقتصادي. وهذه البنوك كما نعرفها اليوم ليست نتاج فترة زمنية محددة، وإنما نتاج تطور تحقق عبر مئات السنين، كاستجابة طبيعية لتوسع النشاط الاقتصادي ابتداء من الثورة الصناعية وما ترتب عليها من ظهور مئات المخترعات الحديثة. واستدعى هذا التطور الصناعي ظهور مؤسسات وساطة مالية مناسبة قادرة على تمويل القفزات غير المسبوقة في حجم ونوع الأنشطة الاقتصادية. فما عاد بإمكان أصحاب الفوائض المالية الاتصال مباشرة بمن هم في حاجة إلى التمويل لصعوبات عملية ولمخاطر تجارية، لذا ظهرت البنوك كمؤسسات متخصصة تجمع الأموال من أصحاب الفوائض وتقدمها لأصحاب المشاريع بتكاليف ومخاطر أقل، نظرا لامتلاك البنوك قدرات فنية أكبر وأفضل في جمع وتحليل المعلومات، الأمر الذي لا يتحقق لعمليات الإقراض المباشر بين طرفين. وبذلك عزلت البنوك الطرفين عن بعضهما وتمكنت من خلال وظيفة الوساطة المالية من تفتيت مخاطر التمويل اعتمادا على قانون الأعداد الكبيرة (قانون بواسون الإحصائي). أصبح بمقدور البنوك توزيع مواردها على عدد كبير من المتمولين (المقترضين) فقللت من الأثر الذي يمكن أن يلحق بأي مودع (مدخر) نتيجة فشل بعض المتمولين في تسديد ديونه أو إفلاسه.
ولا خلاف أيضا بين المختصين أن نوعي البنوك كليهما (التقليدية والإسلامية) يولدان ديونا في دفاترهما، فالبنوك التقليدية تولد الديون عندما تقترض وتقرض بفائدة، والبنوك الإسلامية تولد الديون عندما تستخدم طرق البيع الآجل المختلفة (كالمرابحة، والاستصناع، والسلم، والإيجار المنتهي بالتمليك، وأخيرا التورق). بيد أن بينهما فرقين: الأول أن محل العقد في عقود البيع الآجل في المصارف الإسلامية هو السلع، بينما محل العقد في القرض الربوي هو النقود. والنقود ليست صالحة لأن تكون محلا للعقود في الشريعة (إلا في عقد الصرف وفيه لا يشترط التساوي إذا اختلف الجنسان كدولار مقابل عدة ريالات، لكن يشترط التقابض في مجلس العقد). والفرق الآخر بينهما هو أن ديون المصارف الإسلامية متى ما ثبتت في الذمم لا يمكن تغييرها. فضلا عن أن المصارف الإسلامية لا يجوز لها تداول الديون وإعادة بيعها. إذ العيب ليس في توليد الديون في حد ذاتها ولكن في كيفية هذا التوليد (عقود محلها السلع أم عقود محلها النقود؟) وبالمدى الذي وصل إليه (هل النظام يسمح بتداول الديون بيعا وشراء؟). لقد أدى نظام توليد الديون في المجتمعات الرأسمالية إلى فصل التمويل عن النشاط الحقيقي، وأصبح تداول الديون تجارة قائمة بذاتها دون غاية مفيدة سوى مزيد من المكاسب لفئات على حساب الأكثرية ما أدى إلى مزيد من سوء توزيع الدخول ومزيد من عدم استقرار الاقتصاد. وللحديث صلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي