اعترافات مدير صندوق تحوط سابق 2

جاءتني استفسارات حول اسم مؤلف كتاب '' الانهيار النهائي '' الذي ذكرته في مقالة الأسبوع الماضي. الكتاب ظهر تحت اسم مستعار وهو Hugo Bouleau . أما الاسم الذي ذكرته في مقالتي الماضية فهو الاسم الحقيقي للمؤلف : توبي بيرش Toby Birch. والواقع أن استخدام اسم مستعار pseudonym في تأليف الكتب هو أسلوب دارج إذا كان لدى المؤلف سبب في إخفاء اسمه الحقيقي. وبالنسبة للسيد بيرش كان السبب واضحا وهو أنه يعمل في سوق المال التي تناولها بالنقد، ولم يكن من مصلحته آنذاك التصريح باسمه الحقيقي.
في كتابه سالف الذكر، تنبأ الأستاذ بيرش بأزمة الائتمان العالمية قبل وقوعها. وحيث إن للأزمات دروسا، فإنها كشفت له عن حقيقة مرة، وهي أن محور هذه الأزمة ينبع من فلسفة معيبة تُحمِّل المستقبل الجزء الأكبر من أعباء النمو من خلال جعل توسع ونمو الاقتصاد يعتمد بصورة زائفة على الاستدانة! لقد غدا توليد الديون وقود النظام المصرفي الرأسمالي، ولم تعد المصارف بصيغتها الحالية داعمة للنشاط الاقتصادي الحقيقي، بل إنها بعملها القائم على توليد الديون تحطم ما كان ينبغي أن تقوم بدعمه. والأرقام لا تكذب، فقبل 40 عاما تقريبا كان حجم الديون في الولايات المتحدة يعادل 1.3 ضعف إجمالي الناتج المحلي الأمريكي، ولكنه وصل الآن إلى 7.3 ضعفا !! وليس الإشكال في الديون بذاتها وإنما فيما تخدمه، فمعظمها غدا بعيدا عن خدمة النشاط الحقيقي.
والأستاذ بيرش من الذين يعتقدون أنه لو تم الالتزام بالمبادئ الأساسية المتعلقة بتقييد إصدار النقود والائتمان لتمكنت المجتمعات الرأسمالية من تفتيت وتوزيع الثروات بشكل أفضل. فوفقا لدراسة أعدها مصرف ''سوسيتيه جنرال '' وغطت الفترة التي تلت انهيار قاعدة الذهب، لوحظ أن دخول الأغنياء تحسنت بشكل كبير في حين ساء وضع الشرائح المتوسطة والدنيا. فقد حصل أصحاب أعلى الدخول في الولايات المتحدة على زيادة بمعدل 60 في المائة في دخولهم (وهي زيادة حقيقية أي بعد تعديلها وفقا لمعدلات التضخم) ، بينما انخفضت دخول بقية السكان الحقيقية بمقدار 10 في المائة خلال الفترة نفسها.
ومن السهل ملاحظة كيف تم تحفيز شعوب المجتمعات الأنجلو سكسونية ليمارسوا حياتهم بما يفوق إمكاناتهم من خلال تشجيعهم على الاستدانة التي تعمل في كثير من الأحايين على خلق فقاعات في أسعار بعض الأصول. ولهذا غدا معظم النمو الاقتصادي قائما على توليد الديون وهذا هو ''السر القذر للرأسمالية'' على حد قول '' بن فيونل '' مدير مؤسسة صناديق التحوط الشهيرة في لندن ( فاينانشيال تايمز أول يوليو 2009م ). ولا يحتاج المرء إلى كثير عناء ليلحظ أن مجتمع الصفوة الثرية من دهاقنة المصرفيين والقابضين على مراكز صناعة المال في العالم والذين تسببوا في الأزمة العالمية واستفادوا منها، ما زالوا سائرين في طريقهم. فقد دفعت مؤسسة جولدمان ساش في هذا العام 2009م (وليس في سنوات سابقة) مكافآت بلغ متوسطها نحو نصف مليون جنيه استرليني للموظف الواحد!
إن المرض العضال الذي أصبح سمة الصناعة المالية، أنها قامت على توليد النقود الزائفة عن طريق الائتمان المصرفي. وقد يبدو أن لهذا الوضع أعراضا زاهية كالنمو، بيد أن له جانبا معتما – قد لا يعلمه كثير من الناس- وهو نشر السم في المفاصل الحيوية للاقتصاد. لقد كانت العقيدة المتبعة هي ضرورة تحقيق النمو بأي ثمن وبغض النظر عن الخراب الذي يمكن أن يحدثه هذا النمو المعتمد على تعظيم الديون على الحاضر والمستقبل. والعجيب أن الحكومات الأنجلو ساكسونية لا تزال تمضي في هذا الطريق المالي الخطر، لأنها واقعة تحت تأثير وتوجيه المستفيدين منه ممن لهم قوة ضغط سياسي عالية. إن هذه الحكومات ما زالت ترى أن إنقاذ وول ستريت Wall St. أولى من إنقاذ مين ستريت Main St. ، وأن إنقاذ المصارف مقدم على إنقاذ الاقتصاد. وهي لا ترى ضيرا في أن يقوم المجتمع بدفع ثمن أخطاء المصارف وتحمل تكاليفها بفرض مزيد من الضرائب! وهذا ما أصبح الآن مرفوضا في كثير من دول العالم كما اتضح في لقاءات مجموعة العشرين.
ويؤكد الأستاذ بيرش معترفا أن المصارف بنهجها الراهن غدت مؤسسات أنانية لا تعمل لمصلحة الناس والاقتصاد بل لمصلحتها الذاتية. والارتفاع المحموم في معدلات الديون وفي عرض النقود بلا ضوابط أدى إلى هذا الخلل المدمر. وللأسف ما زلنا نميل إلى كل ما هو غير قابل للاستمرار. وإذا أردنا النجاة فعلينا تغيير هذا النظام المصرفي القائم على تجميع المخاطر الخفية وجعله – بدلا من ذلك - نظاما قائما على مؤسسات داعمة للنشاط الاقتصادي الحقيقي. وهذا هو المحور التي تدور حوله وتدعو إليه النظرية المالية الإسلامية. وما زال للحديث صلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي