اعترافات مدير صندوق تحوط سابق
درجت مجموعة البركة المصرفية على مدى ثلاثة عقود على عقد ندوة علمية سنوية عن الصيرفة الإسلامية في شهر رمضان من كل عام. وعلى الرغم من أن ندوة هذا العام عقدت تحت عنوان: ''دور المشتقات في إحداث الأزمة المالية العالمية'' وهو موضوعها الأول، إلا أنها تناولت ثلاثة مواضيع أخرى: أولها عن التطبيقات العملية للإجارة الموصوفة بالذمة، والثاني عن تأمين الدين والضمان، أما الأخير فكان عن مدى قبول القوانين الوضعية مرجعا لاتفاقيات وعقود تكون المؤسسة المالية الإسلامية طرفا فيها. وعلى مدى سنواتها الثلاثين، تميزت هذه الندوات بتصديها ومعالجتها لمسائل ومواضيع وإشكالات عملية مستقاة من واقع العمل المصرفي والمالي الإسلامي. وكانت تنتهي دائما إلى مجموعة من التوصيات أصبحت مع تعاقب السنين تمثل حصيلة وثروة فقهية ثمينة ومفيدة للصناعة ساهم في صياغتها ثلة من أشهر الفقهاء والخبراء المشتغلين بها.
كان موضوع الندوة الأول مهما ومثيرا لمناسبته لظروف الأزمة المالية العالمية ولنوع المشاركة التي جاءت من شخصيتين أوروبيتين، أحدهما بريطاني جاء من قلب الصناعة المالية، والآخر أكاديمي إسباني له اهتمامات بالعمل المصرفي الإسلامي. وسأركز في هذا المقال على مشاركة الأول. عمل الأستاذ البريطاني توبي بيرش لفترة طويلة مديرا لصناديق تحوط واستثمار في كل من بريطانيا وسويسرا وهولندا، وهو يدير الآن شركة تحمل اسمه وتعمل في مجال إدارة الأموال وفقا لأسس أخلاقية وإسلامية. وهو أحد الذين تنبؤا بحدوث أزمة الائتمان العالمية. وقد نشر هذه التنبؤات في أيار (مايو) من عام 2007م، قبل أشهر قليلة من ظهور الأزمة! ضمن كتابه الشهير ''الانهيار النهائي: إدمان الديون وتشوه الاقتصاد العالمي''
The Final Crash: Addictive Debt and the Deformation of the World Economy ”''
احتوى كتابه هذا على معلومات وحقائق وآراء مثيرة ولافتة! وبعض فصوله - كالفصل الرابع - كانت أشبه باعترافات مدير صناديق تحوط سابق.
يقول الأستاذ بيرش إننا أصبحنا متخصصين ومتمرسين بعد وقوع الأزمات في إلقاء اللوم على الآخرين، حيث نعتبر الآخرين هم المضاربون بينما ننظر لأنفسنا أننا المستثمرون الحقيقيون ! لكن إن أردنا بصدق الوصول لحلول لمشاكلنا ونكباتنا الاقتصادية فعلينا أن ننظر إلى المرآة ونتعرف على أخطائنا.
أدرك الأستاذ بيرش من خلال عمله أنه كلما مارس المجتمع مزيدا من عمليات توليد الديون، طال أمد الوصول إلى مرحلة الإنقاذ التي تضمن لنا الخروج من العصر المالي المظلم القائم على الفائدة! وقد بات مقتنعا أن تراكم الديون المعتمد على نظام الفائدة لا يعد سرقة وسلبا لهذا الجيل فحسب، بل إنه اعتداء صارخ على مصالح الأجيال المقبلة. لذا فهو يعتقد أن لحياتنا الاقتصادية ثلاثة أعداء هم الديون والفائدة والمضاربة. أما المضاربة والمشتقات المالية فهي عنده توفر آلية سريعة لإخفاقات النظام الرأسمالي. هي ليست بذاتها سببا للفشل، بيد أنها تعمل على تضخيم وتسريع وتفاقم الوضع السيئ القائم أصلاً.
لقد تيقن الرجل أن المشتقات Derivativesوالروافع المالية Leverage أسهمت إسهاما كبيرا في تسريع وتعقيد وترابط أسعار الأصول ومن ثم فاقمت من تقلبات الأسواق المالية ثم الاقتصاد الحقيقي. أما صناديق التحوط التي قدمت أصلا كأداة درء للمخاطر، فإنها في الحقيقة فاقمت من المخاطر المنتظمة. وللأسف فإن المتاجرة في الديون والمشتقات سحبت رأس المال من الأنشطة الاقتصادية الحقيقية ووجهتها إلى أدوات خفية مدمرة. وقد خلص الرجل من خلال تجربته إلى أن المبادئ الإسلامية المتعلقة بضرورة تحمل الجميع لمخاطر الأنشطة هي الحل الوحيد الذي من شأنه مقاومة الضعف البشري في سعيه لجلب وتوليد المال دون بذل جهد ومشقة. أما ما نفعله من فصل للمخاطر عن المكاسب وفصل للمال عن الإنتاج فإنه سبب الفوضى والتقلبات وشيوع مظاهر عدم عدالة توزيع الثروات التي أصبحت سمة للمجتمعات الرأسمالية. إن أهمية وقيمة هذه الآراء أنها تأتي من ممارس لهذه الأعمال مدعومة بإحصاءات وحقائق عايشها المؤلف. وللحديث صلة.