مستقبل علم الفلك
منذ الأزل، ينظر الإنسان إلى النجوم بخوف وانبهار. ولكن لم يعد الأمر كذلك، فالمراصد التي يتم فيها تجميع الضوء مدارة الآن من قبل روبوتات لا تلوث الأدوات ولا تأخذ فترات قيلولة ليلية. ولكن هل هذا مهم؟ هذا ما يعتقده بعض علماء الفلك في اجتماع الاتحاد الفلكي الدولي لهذا العام، الذي عقد في ريو دي جانيرو من الثالث حتى الرابع عشر من آب (أغسطس). وقد ناقشوا الأمور التي يمكن القيام بها لوقف اتجاه موضوعهم نحو تعدين البيانات التي يتم جمعها من قبل أجهزة الكمبيوتر بدلا من النظر في التلسكوب. ويعد اجتماع ريو ذروة ما أطلق عليه الاتحاد ''العام الدولي لعلم الفلك''. وسبب اختيار عام 2009 هو مرور 400 سنة بالضبط منذ أن أدار غاليليو غاليلي تلسكوبه إلى السماء لدراسة ما يمكن للعين المجردة أن تراه، وأيضا منذ أن كشف جوهانس كيبلر للعالم أن مدارات الكواكب هي اهليلجية وليست دوائر. وبالنظر إلى الماضي، يمكن اعتبار هذين الحدثين بداية علم الفلك الحديث.
ولم تتباطأ وتيرة الاكتشاف. وفي الواقع، وصف أكثر من مشارك في الاجتماع هذا العصر بأنه ''العصر الذهبي''، فوتيرة الاكتشافات في تزايد، وكذلك وسائل مواكبة التفاصيل. وقد أدى هذا بدوره إلى إيجاد تلسكوبات أكبر وأكثر تكلفة، وإدخال أساليب الإدارة الرامية إلى ضمان سلاسة سير المشاريع الكبيرة. إلا أن هذه النزعة الإدارية بدأت تثير قلق بعض أعضاء الاتحاد الأكثر تعمقا في التفكير. فهم يخشون أنه على الرغم من أن هذا يجلب منافع قصيرة الأجل، إلا أنه قد يسحق الموهبة الفردية على المدى الطويل.
ومن ضمن هؤلاء القلقين، هناك Simon White، من معهد Max Planck للفيزياء الفلكية في مدينة Garching في ألمانيا. ويقول إنه في القرن التاسع عشر ومعظم أوقات العشرين أيضا، كان التقدم العلمي ينبع من أشخاص نابغين يقومون بوضع واختبار الفرضيات باستخدام بيانات تم جمعها بوسائل متواضعة نسبيا.
وبالطبع، فإن للعلم الكبير (العلم الذي يتطلب استثمارات ضخمة ولكن الذي يتوقع أن يسفر عن نتائج مهمة) مكانه، فأولا تتيح الكميات الهائلة من البيانات اكتشاف الآثار الخفية على الصعيد الإحصائي. إلا أن White يشير إلى أن على علماء الفلك ضمان ازدهار العلم الصغير إلى جانب نظيره الأكبر، مثلا عن طريق التأكد من أنه يمكن أيضا استخدام التلسكوبات المصممة للبحث عن الاكتشافات الكبيرة للمشاريع التي قد تعتبر صغيرة.
مساحة للتفكير
لعل من ضمن الطرق الأخرى لتشجيع الأشخاص الموهوبين إصلاح الطريقة التي يتم بها تخصيص الوقت للتلسكوبات. ويؤيد هذه الفكرة الرئيس الجديد للاتحاد الفلكي الدولي، Robert Williams من معهد Space Telescope Science في بالتيمور في ماريلاند. ويعتقد أنه يجب اتخاذ القرارات المتعلقة بوقت المراقبة المخصص للأشخاص من قبل مديري المراصد، المسؤولين أمام هيئة توجيهية، بدلا من اتخاذها من قبل جماعات من الشخصيات المهمة، كما يحدث الآن.
وهو يقول: ''تتطلب القرارات التي تنطوي على مخاطر كبيرة وقد تؤدي إلى نتائج مذهلة قرارات صعبة يكون من الأفضل اتخاذها من قبل أفراد، وليس لجان.'' وهو يعرف ما يتحدث عنه. فبوصفه مديرا لمعهد Space Telescope Science تم في عام 1995 تخصيص عشرة أيام له على مرصد Hubble الفضائي، أشهر مرصد في أمريكا. وبدلا من استخدام هذا الوقت على مشروع ذي هدف محدد مسبق، طلب أن يتم توجيه التلسكوب إلى مكان معتاد في السماء وتركه هناك طوال الفترة لرؤية ما يمكن أن يراه التلسكوب.وكانت النتيجة صورة Hubble Deep Field، وهي صورة مفصّلة بشكل رائع لمنطقة صغيرة في كوكبة نجوم تدعى Ursa Major. ومجال الرؤية ضيق جدا بحيث لا يظهر فيها سوى 20 نجمة من Milky Way والمجرة التي تقع عليها الأرض. وما أظهرته هو نحو ثلاثة آلاف مجرة، وبعضها من أبعد (وبالتالي أصغر) المجرات التي تمت رؤيتها. وتظهر الصورة أن الكون موحد على نطاقات كبيرة وأن الأرض تحتل منطقة نموذجية منها. ومن غير المحتمل أن تتحلى أي لجنة بالشجاعة لتخصيص هذا الوقت الكبير لما اعتبر مغامرة غير مضمونة.
ولكن على الرغم من رغبة البعض بفعل هذا، لا يمكن لعلماء الفلك إدارة ظهورهم للعلم الكبير. ولرؤية أجسام بعيدة باهتة في فجر التاريخ، كما فعل Williams مع Hubble، يجب جمع كثير من الضوء. وهذا يعني أن يكون هناك مرايا كبيرة في التلسكوب، والمرايا الكبيرة مكلفة.وفي الأرض، سيتم وضع أكبر المرايا التي يتوقع وضعها في تلسكوب في ثلاثة مشاريع تلسكوب سيتم استكمالها، بالصدفة، عام 2018. وسيضم تلسكوب The Giant Magellan Telescope، وهو جهد مشترك من أمريكا وأستراليا وكوريا الجنوبية سيتم بناؤه في صحراء أتاكاما في تشيلي، سبع مرايا، كل منها بعرض 8.4 متر، مما يجعل قطرها 25 مترا. والتلسكوب الأكبر، الملقب Thirty Metre، لأسباب واضحة، هو تعاون بين جامعات أمريكية وكندية. وقد تم تصميمه منذ عام 1990. وفي الشهر الماضي، أعلن مجلس إدارة المشروع أنه إذا حصل على التمويل سيتم بناؤه في Mauna Kea في هاواي.
أما التلسكوب الثالث، European Extremely Large Telescope، فهو البديل المقترح لتلسكوب Overwhelmingly Large Telescope، الاقتراح الذي رفضه المرصد الأوروبي الجنوبي قبل ثلاثة أعوام حين اكتشف أن تكاليفه ستكون هائلة. وسيبلغ عرض مراياه 42 مترا، وسيتم بناؤه على الأرجح إما في إحدى جزر الكناري وإما في تشيلي.
وإضافة إلى هذه التلسكوبات التقليدية الجديدة، من المحتمل أن تظهر طرق جديدة تماما لممارسة علم الفلك الكبير لإغراء علماء الفلك بالعودة إلى قبضته. وهناك عدة مشاريع تحت الإنشاء الآن لاكتشاف موجات الجاذبية- التموجات في نسيج الفضاء نفسه- مع أن أيا منها لم يحقق بعد ذلك. وإذا تم ذلك في النهاية بواسطة هذه المشاريع أو مشاريع تالية لها سيؤدي إلى فتح نافذة جديدة على الكون، مما سيتيح لعلماء الفلك دراسة الأجسام الضخمة مثل الثقوب السوداء المتصادمة بتفاصيل غير مسبوقة. وبدأ علماء الفيزياء الفلكية أيضا في اكتشاف الاتجاهات التي تأتي منها تدفقات الجزيئات الذرية الفرعية التي تسمى النيوترونات، ويتم أيضا تحقيق تقدم في مجال تفسير الأشعة الكونية. وحين يتم فهمها على نحو أفضل، يمكن لعلماء الفلك استخدامها لدراسة الكون بالطريقة التي يستخدمون بها الآن الضوء وموجات الراديو. ولكن علماء الفلك على حق بدعم العلم الصغير في مجال الفضاء. فقد تم التوصل للاكتشافين الأكثر إثارة أخيرا- اكتشاف ''الطاقة السوداء''، واكتشاف الكواكب خارج النظام الشمسي- عن طريق استخدام معدات متواضعة، فنجاح العلم الصغير هو ما يعزز نمو العلم الكبير.