العمل الخيري .. مشتت وهش والأزمة المالية تهدده
يمثل شهر رمضان المبارك موسما مهما للجمعيات الخيرية في كثير من الدول العربية، حيث ترتفع وتيرة التبرعات للجمعيات الخيرية من قبل الموسرين الذين يتحينون فرص الخير والأوقات المباركة لإخراج صدقاتهم وزكواتهم.
لكن الجمعيات الخيرية بدأت تعاني بفعل أزمات متراكمة كشفتها الأزمة المالية العالمية التي أثرت في مداخيل كثير من رجال الأعمال والموسرين، وعمّقها أكثر، سلبيات مثل تشتت العمل الخيري بين الجمعيات وقلة التنسيق فيما بينها خاصة في البلد الواحد.
ويرى بعض الخبراء في العمل الخيري أن الأزمة المالية كشفت النقص الاستثماري لدى الجمعيات حيث أثر نقص السيولة عليها في تأدية الأدوار المطلوبة منها رغم الدعم الحكومي، في السعودية مثلا، حيث يمثل حجر أساس في عمل الجمعيات الخيرية، فضلا عن أن غياب التنسيق يؤدي إلى أعمال مكررة بذات الصيغ تكون أقل فائدة فيما لو نفذت بتعاون وتكاتف أكثر من جمعية، حيث يؤدي ذلك إلى تقليص التكاليف.
وتشير بعض التقارير إلى أن ما يصرف في دول الخليج العربية على العمل الخيري يقترب من 20 مليار دولار من مختلف الجهات لكن لا يذهب إلى معالجة الفقر والتعليم سوى أقل من ملياري دولار، وهو ما يعني أن نسبة كبيرة من هذه الأموال لا تؤدي الغرض الذي صرفت من أجله.
«الاقتصادية» اعتبارا من اليوم تفتح هذا الملف في مسعى للوقوف على أبرز مشكلاته، وطرق حلولها من خلال تقارير وآراء خبراء في هذا الميدان، ونبدأ بتقريرين الأول يعرض الحالة في الدول العربية عامة، مردوفا بتقرير محلي عن اتفاقية بين أكبر ثلاث جمعيات عاملة في هذا المجال. إلى التفاصيل:
#2#
بينما تستمر الأزمة العالمية، يبدي قادة المنظمات غير الربحية في الشرق الأوسط قلقهم من أنها يمكن أن تعوق الجهود الحثيثة لجعل العمل الخيري العربي أشد فاعلية.
وأشار تقرير أعده الباحث أندرو ميلز إنه بينما تعتبر مؤسسات العمل الخيري هنا، وفي أجزاء أخرى من العالم العربي، سخية، فإن عدداً قليلاً منها هو الذي يقيس نتائج ما يعطيه، كما أن مؤسسات الخير والإحسان تفتقر غالباً إلى المهارات المحترفة اللازمة لتقييم عملها، كما جاء في تقرير صادر عن الشركة الاستشارية الدولية في مجال النشاطات العملية، ماكنزي وشركاه.
فقد ذكر تقرير صادر عن هذه الشركة تم إعداده في كانون الثاني (يناير) الماضي، أن البعض يقدر أن 20 سنتاً من كل دولار يتبرع به المحسنون في السعودية، يحدث أثراً، أو تحسناً في المجتمع.
حاول عدد قليل من المنظمات، خلال السنوات الأخيرة حل هذه المشكلة، حيث قالت ناتاشا ماتك، مستشارة الاستراتيجية والبرامج في مؤسسة الملك خالد في المملكة « هنالك تحول هنا من مجرد تحرير الشيكات إلى مزيد من صيغ وأساليب العمل الخيري المستدام والاستراتيجي».
وتقدم هذه المؤسسة في الرياض تدريباً دون مقابل لقادة المنظمات غير الربحية في المملكة لتحسين مهاراتهم الإدارية.
وقالت ماتك:«لو كان باستطاعتنا تحسين فاعلية وأثر المبالغ المتبرع بها إلى ما يصل إلى نحو 80 في المائة، فإننا نكون قد ضاعفنا الأثر أربع مرات، دون أن نتكلف أي مبالغ إضافية».
## إخراج الزكاة
من المؤكد أن هنالك تقليداً ضارباً في القدم للعمل الخيري في الشرق الأوسط، حيث هنالك عدد كبير من الأثرياء، ولا سيما في الدول النفطية الغنية في الخليج، إذ إن معظم الناس يؤدون فريضة الزكاة التي تتطلب من المسلمين تقديم 2.5 في المائة من موجوداتهم، على الأقل، إلى المحتاجين سنوياً.
غير أنه نادراً ما يتم إخراج الزكاة بأسلوب منسق ومنتظم، حيث يتم ذلك في العادة بعطايا للمحتاجين، أو المساجد.
وعلى سبيل المثال، ذكرت دراسة ماكنزي أن المبالغ التي يقدمها الناس في بلدان الخليج للأعمال الخيرية تقدر بما يراوح بين 15 و20 مليار دولار في كل عام.
ولكن أقل من ملياري دولار من ذلك المبلغ يدعم الجهود الرسمية للجهات غير الربحية في سبيل مكافحة الفقر، وتحسين التعليم، أو غير ذلك من الأغراض الخيرية.
والمبالغ الأكثر من ذلك، كما يقول خبراء العمل الخيري في المنطقة، تقدم في الغالب دون تركيز، إضافة إلى ما تعانيه المنظمات من ضعف في التنسيق.
#3#
ويدور معظم العمل حول التطلعات الخاصة، والدعم الشخصي من جانب محسن واحد، أو عائلة غنية.
وبدلاً من تنسيق جهودها، فإن هذه المنظمات العاملة في العالم العربي ينتهي بها الأمر في أغلب الحالات، وهي تنافس بعضها بعضا.
وقالت مايتك إن من أمثلة ذلك «وجود عدد كبير من المنظمات المكرسة للأيتام في المملكة.
ومن المدهش للغاية أنها تقوم بالأمر ذاته. وحين ترى إحدى المنظمات أن منظمة أخرى تساعد الأيتام، فإنها تقول «دعونا نساعد الأيتام أيضاً»، وذلك بدلاً من أن تقول « دعونا نركز على مجال آخر».
## تنفيذ مركز
أوصى تقرير ماكنزي بزيادة التعاون بين المنظمات، ومما ورد فيه « إن من شأن التنسيق، والاستثمارات المشتركة، أو حتى الاندماج، المساعدة في الحد من تكرار الجهود، والموارد، وكذلك تمكين القيام بتنفيذ أعلى تركيزاً».
وبدلاً من أن يكون هذا التقرير دراسة كاملة، فإنه يعتبر مذكرة حول العمل الخيري في السعودية الذي تتولى أموره عدة مؤسسات كبرى في البلاد.
وتحدثت ماكنزي، إضافة إلى مؤسسة بيل وميلندا جيتس، مع مقدمي هذه المنح، والمبالغ للأغراض الخيرية من السعوديين لتطوير النتائج التي يتم تناقلها بهذا الخصوص.
وقالت بربارا إبراهيم، مديرة مركز جون جيرهارت للأعمال الخيرية والمساهمة المدنية في الجامعة الأمريكية في القاهرة، إن معظم العمل الذي تقوم به المؤسسات الخيرية في العالم العربي هو» أشياء صغيرة في أماكن صغيرة».
وأضافت أن المنظمات غير الربحية غالباً ما تركز على اجتثاث الفقر من خلال إطعام الجائعين، وتقديم خدمات اجتماعية مباشرة إليهم، بدلاً من عمل ذلك من خلال مشاريع تنمية اقتصادية طويلة الأجل.
وتقوم إبراهيم ومركز جيرهارت بأبحاث لتقديم بيانات أفضل حول المنح والعطاء في هذه المنطقة.
وقالت إنه بدون مثل هذه المعلومات، فإن من الصعب معرفة أي نوع من الأعمال الخيرية هو الذي يتم القيام به. وربما يكون الأمر الأكثر أهمية من ذلك تحديد الحاجة الاجتماعية لهذه المنطقة.
وبالنسبة إلى تلك المؤسسات القليلة ذات النهج المركز في العالم العربي، فإن جهودها تتطلب مزيدا من العاملين في الميدان، حسب قول ماتيك.
وأضافت «أدركنا كمؤسسة أنه انتهى بنا الأمر إلى أن نكون مؤسسة للتنفيذ، إضافة إلى كوننا وكالة للتمويل، وذلك لأن المنظمات غير الربحية ليست قوية بما يكفي لإدارة المنح.
وإن أكثر ما نحن بحاجة إليه هو تعزيز القطاع غير الربحي».
## قضايا هيكلية
يردد قادة المنظمات غير الربحية في دول الشرق الأوسط الأخرى صدى مخاوفها.
وقالت الأميرة دينا المرعد، المديرة العامة لمؤسسة الملك حسين للسرطان في الأردن « إن أكبر مشاكلنا في العالم العربي هيكلية. وليس هنالك فهم بأنك بحاجة إلى أمور مثل فرق الاتصالات والتسويق لعمل الدعاية، وكذلك هنالك حاجة إلى جهة ما لجمع الإحصائيات».
وتدار معظم المؤسسات الخيرية في الأردن من قبل شخص يتولى ذلك بصورة فردية، حيث يقوم بجمع الأموال، والتسويق، وأداء مهام أخرى.
وتقول المرعد إن مجالس الإدارات تمتنع عن توظيف مزيد من الأفراد لأنها تعتبر ذلك تبديداً للأموال. وأضافت « لا يمكن للشخص الذي يقدم الخدمة أن يكون نفسه الذي يتولى جمع الأموال».
وبالنسبة إلى المؤسسات الخيرية، ومقدمي المنح الذين يبحثون عن موظفين جدد، فإن المنطقة تفتقر إلى وجود تجمع عميق من المحترفين في شؤون المنظمات غير الربحية.
والأكثر من ذلك أن المنظمات غير الربحية في هذه المنطقة صارعت من أجل إغراء العاملين من الولايات المتحدة، وغيرها من بلدان العالم بسبب عدم وجود رواتب منافسة، إضافة إلى محدودية التقدم على صعيد السيرة العملية، كما قال تقرير ماكنزي.
وصعّد مركز جيرهات جهوده، حيث سيعقد سلسلة من ورش العمل حول المنح والعطاء في ظل أوقات اقتصادية صعبة، كما ورد على لسان بربارا إبراهيم من هذا المركز.
وأضافت «إن العطاء المؤسسي جديد نسبياً هنا، كما أنه مشتت وهش، ونحن لا نريد للجوانب النفسية المتعلقة بالأزمة الاقتصادية أن تترك أثرها».
##أكبر 3 جمعيات سعودية توثق عملها باتفاقيات شراكة وتنسيق مشترك
قبل عدة أشهر وقعت أكبر ثلاث جمعيات خيرية في المملكة اتفاقية تعاون مشترك لتكامل وتنسيق أنشطة العمل الخيري، وهي مؤسسة سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيرية ومؤسسة الملك خالد الخيرية، ومؤسسة الأميرة العنود بنت عبد العزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود الخيرية. وتبرز أهمية الاتفاقية في كونها جاءت من الجمعيات الأكبر حجما وتأثيرها واستنادا إلى تميزها في العمل بطرق غير تقليدية حيث تركز على العمل المستدام.
وفي هذا الإطار، تقول الأميرة البندري بنت عبد الرحمن الفيصل المدير العام لمؤسسة الملك خالد الخيرية، إن الاتفاقية تركز على دور المؤسسات الخيرية في تبني واستحداث مبادرات رائدة هدفها خدمة المجتمع وتوعيته مع تطوير برامج تنمية اجتماعية تخدم المجتمع بجميع شرائحه، مبيّنة أن الاتفاقية تسعى إلى نقل العمل الخيري من النمطية التقليدية إلى العمل التنموي الفاعل.
مشيرة إلى أن الاتفاقية ستعمل على تنسيق الجهود وتوحيدها حتى لا يصبح هناك تضارب أو عدم توافق بين المؤسسات والجهات العاملة في القطاع الخيري في المملكة، موضحة أن هذه الاتفاقية تعكس الرغبة في خدمة المجتمع السعودي والمواطن السعودي.
وقالت إن من أهداف الاتفاقية تطوير وتنسيق أعمال المؤسسات والجمعيات الخيرية في المملكة، إلى جانب تطوير التدريب والتأهيل في مجالات العمل الخيري، مع إنشاء بوابة إلكترونية تكون بمثابة وسيلة تواصل مستمرة بين الجمعيات الخيرية الأخرى في المملكة، وتتضمن معلومات للمهتمين بالعمل الخيري في المملكة.
في الاتجاه ذاته, يؤكد الدكتور ماجد القصبي المدير العام لمؤسسة سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيرية، أن الهدف من الاتفاقية هو انتقال العمل الخيري من العمل الانفرادي إلى العمل المؤسسي المنهجي المتكامل، من حيث وضع الأولويات للتواصل مع المجتمع اجتماعيا وإنسانيا وخيريا وفق ما يراه المجلس. لافتا إلى أنه من شأنها (الاتفاقية) وضع برنامج محدد له أهدافه وغاياته المرسومة بعناية شديدة، مؤكدا أن تضافر الجهود في هذا الشأن يعد بداية طيبة لإشراك الآخرين.
ولفت الدكتور القصبي إلى أن القائمين على الاتفاقية سيبذلون قصارى الجهد من أجل رفع كفاءة عديد من المؤسسات وتحسين قدراتها مع دعم البرامج الرائدة، وأداء الخدمة الخيرية بمصداقية واحترافية والعمل كفريق واحد.
وأخيرا، بيّن الدكتور يوسف الحزيم الأمين العام لمؤسسة الأميرة العنود بنت عبد العزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود الخيرية، أن توقيع تلك الاتفاقية يعد معلما بارزا في تاريخ العمل الخيري. وقال:«إن الاتفاقية تنسجم مع فلسفة مؤسسة العنود الخيرية التي تأخذ على عاتقها دفع العمل الخيري التنموي في المملكة إلى الأمام، بحيث تتكامل الجهود وتتضافر من أجل مستقبل مشرق لهذا العمل. وأشار إلى أن العمل الخيري في المملكة عمل موثوق به بدرجة كبيرة، كاشفا أن المملكة تقدم نحو 2 في المائة من الناتج المحلي للأعمال الخيرية باعتبارها أمة ذات رسالة في هذا النوع من الأعمال الإنسانية.