كل المؤرخين السعوديين الأكاديميين هم مؤرخون تقليديون وليس من مصلحتهم مقارنتهم بسابقيهم
كل المؤرخين السعوديين الأكاديميين هم مؤرخون تقليديون وليس من مصلحتهم مقارنتهم بسابقيهم
لا يمكنك أن تقف على منجز توثيقي أو علمي واضح حينما تضع الأكاديميين المختصين بالتاريخ في مواجهة هذا المبحث المهم والمؤثر في العربية ، في الوقت الذي تتشكل فيه مرجعية هذا الجانب على مؤلفات موسوعية تنوعت بين التراجم والمعاجم والسير كانت الغالبية العظمى من مؤلفيها هم الأدباء أو المثقفون الذين لم يحملوا الشهادات نفسها وعملوا في أجواء مختلفة عن أجواء المحاضرات الأكاديمية التي لم تكن قادرة على صناعة تراكم مؤثر بقدر ما اكتفت بإعادة إنتاج التراكم القائم أصلا في حين اكتفى الباحثون بدراسات خاصة تدور غالبيتها في إطار المناقشة الأكاديمية العلمية التي لا تفضي سوى إلى نفسها في نهاية الأمر.
نقد هذه المسألة يتجه بها إلى محاور أخرى تضع كثيرا من الكفاءات الأكاديمية أيضا أمام مسؤولياتها تجاه الوجود الفاعل في المشهد الثقافي ، وذلك من خلال عزلتهم وغيابهم غير المبرر حيال إثراء مكتباته بإسهامات تقدم مجالاتهم البحثية أياً كانت برؤى جديدة وعبر منطلقات علمية وأساليب عرض متنوعة، ولاسيما في ظل امتلاكهم لمتطلبات إنجاز هذا العمل المهم.
عن المحور التاريخي تحديدا ، أشرعت «الاقتصادية» باب السؤال عن غياب الدور الأكاديمي في مقابل حضور فاعل سجلته السنوات الماضية لغيرهم من المثقفين والباحثين التقليديين، والذين ما زالت أعمالهم حتى اليوم تمثل المرتكز الرئيسي لقراءة التاريخ من مختلف زواياه الأدبية والجغرافية والاجتماعية، وفي الوقت الذي لم نخرج فيه بإجابة واضحة من أكاديميين متخصصين، قدم الباحث والكاتب علي العميم رؤية تحليلية واسعة لهذه القضية منطلقا من مقاربات تاريخية وثقافية ، ليرصد التجارب ويربط الظاهرة بسياقات زمنية ومكونات وتيارات عدة.
هيثم السيد من الرياض
يقول العميم : ينبغي علينا أن نتساءل: لماذا كان مستوى عدد من المؤرخين التقليديين مستوى حسنا ومرضيا بمعزل عن إقامة أية مفاضلة من أي نوع ومقارنة من أي مستوى بينهم وبين المؤرخين الأكاديميين؟
للإجابة عن سؤال كهذا يحسن أن أذكّر بأن تدوين التاريخ في الثقافة العربية الإسلامية ،كان له طابع الدوام وخاصية الاستمرار. فهو عملية علمية وفعل ثقافي لم ينقطع الاشتغال به في أقاليم تلك الثقافة، أقاليمها الظاهرة والضامرة، رغم التدهور والانحطاط الذي تردّت الثقافة العربية الإسلامية فيه قرونا طويلة، في حين أن التأليف في بعض العلوم التقليدية، الدينية منها واللغوية، كان قد توقف وانقطع في القرون المومأ إليها، ودخل في دائرة الاضمحلال والتلاشي، وقبع في زوايا النسيان.
أذكّر بهذا الأمر بصرف النظر عن قضايا الضعف والهزال والسقم والبساطة والسذاجة والعامية والقصور الفادح الذي اعتور المؤلفات التاريخية في قرون التدهور والانحطاط التي مرّت الثقافة العربية الإسلامية بها، وذلك بمقارنتها بالمؤلفات التاريخية في قرون عظمة وسموق تلك الثقافة، فالمهم في هذا المقام هو التأكيد على الملاحظة السابقة، وهي أن تدوين التاريخ باللغة العربية عملية لم تتوقف ولم تنقطع، وبالتالي كان لها طابع الديمومة العلمية وخاصية الاستمرارية الثقافية التاريخية.
هذا على مستوى عام، وعلى مستوى خاص، وبعيدا عن حواضر الثقافة العربية والإسلامية، أو لنقل على حوافها وهوامشها، لنلحظ أنه في الجزيرة العربية وفي قرون متأخرة، ثمة أسماء مشتقة ببعض العلوم الدينية، في الحجاز واليمن ونجد، كانت لها عناية بكتابة التاريخ، وإن كانت أسماء قليلة. ونلحظ أيضا، أنه بعد قيام الدعوة السلفية في قلب الجزيرة العربية، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أننا لا نعدم فيها من كان له عناية بتدوين التاريخ المحلي، رغم قلة عنايتها بالعلوم التقليدية.
وبعد التأسيس الثالث للدولة السعودية الذي نهض بأعبائه بطل من القرن العشرين هو الملك عبد العزيز آل سعود، انتعشت إلى حد ما، صناعة كتابة التاريخ المتعلق بالدعوة السلفية، وبالجانب السياسي للدولة السعودية في طوريها الأول والثاني، وبفترة التأسيس الضخم الذي خاض غماره الملك عبد العزيز. والمتعلق كذلك بوصف الأحوال السياسية وشيء بسيط من الأحوال الاجتماعية والاقتصادية لبعض الأقاليم التي منها ومن أقاليم أخرى، نشأ الكيان السياسي السعودي الحديث.
هذه الانتعاشة في كتابة التاريخ المحلي أو التاريخ الإقليمي السعودي أسهم فيها ثلة من الكتاب الأجانب وأغلبية من الكتاب العرب وقليل من الكتاب السعوديين.
من جهة ثانية، فإن سنوات منتصف القرن الماضي وما تلاها، كانت قد حفلت باكتمال إعادة نشر العديد من ذخائر التراث العربي الإسلامي محققة، وهو الجهد العلمي الذي بدأه المستشرقون ثم خلفهم فيه البحاثة والمحققون العرب. ومن هذه الذخائر التي اكتمل إعادة نشر العديد منها محققة، مصنفات العرب في مجال التاريخ بمختلف فنونه. وكلنا نعرف أن للعرب القدامى تراث ثر في هذا المجال. وكلنا نعرف أنهم قد حققوا فيه تفوقا لا يضاهى في العصور الوسيطة.
ما أرمي إليه من تقدمة تلك الإلماحة، إيضاح أن المؤرخ السعودي التقليدي سواء أكان من جيل الرواد أو من الأجيال اللاحقة التي تلتهم يتكئ – على مستوى عام وعلى مستوى خاص – على تراث حي وموضوع متصل وجهد متواصل وعطاء متراكم في ميدان اهتمامه. يحتاج إتقان العمل فيه، إضافة إلى الموهبة الشخصية، توافر بعض العلوم العربية الإسلامية التقليدية المساعدة التي تهيئ له السبيل أن يحذق صنعة المؤرخ. وأمامه بحر زاخر من المؤلفات التاريخية في مختلف فنونها، من العصور الإسلامية الأولى إلى العصر الحديث، ينهل منها كيفما شاء من دون سدود لغوية وحواجز رقابية وموانع سياسية وقيود منهجية ومتاريس فكرية.
وبالانكباب على مصنفات المؤرخين القدامى والمؤرخين المحدثين مع توافر بعض العلوم العربية الإسلامية المساعدة، يتيسر له أداء مهمة المؤرخ خاصة وأن مجال التاريخ الوقائعي أو السردي والتاريخ السيري أو كتابة التراجم وليس التاريخ ببعده التفسيري وفي جانبه التأويلي. ذلك أن التاريخ بهذا البعد وفي هذا الجانب تطلب عدته من المظان الغربية وليس من المظان العربية الإسلامية القديمة.
ولا أعدو الصواب، إن قلت إن بعض المؤرخين السعوديين التقليديين، وخاصة من جيل الرواد، استوفوا العدة اللازمة أو الشرط الكلاسيكي الذي لا بد أن يتحقق في المؤرخ التقليدي. ويجب ألا نغفل أن منهم من قدم إلى التاريخ أو كتابته من أفياء الأدب. والأدب والأسلوب الأدبي حتى في حده الأدنى يساعد على الوضوح في الكتابة ويمنح القدرة على الكتابة التاريخية.
ربما للعوامل والأسباب التي شرحناها آنفا، كان مستوى بعض المؤرخين السعوديين التقليديين حسنا ومرضيا. أقول (ربما) ذلك لأني أحاذر القطع واليقين في هذه المسألة. ولأني أعلم أن صحة الوصف لا ينبغي عليها بالضرورة سداد الحكم وصواب التعليل.
وبما أني نكصت في السطر السابق من حيث لا أشعر إلى منطق التردد ولغة الاحتمال، وهذا ما لم يدر بخلدي أن أفعله، وأن أكتب الفقرات السابقة لذلك السطر، دعوني أنبه إلى أن المؤرخين السعوديين التقليديين ليسوا كلهم ولا معظمهم كانوا في موكب المتفوقين وركاب النابهين، وإنما التفوق والنباهة في أسماء بينها. وهذه الأسماء هي أسماء قليلة. ويغلب عليها صفة التحقيق العلمي والانحصار في موضوعات إما هي إقليمية بحتة وإما هي شديدة المحلية وإما هي جدا متخصصة، لا يقبل عليها إلا المتخصصون في قضايا تخص تاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها والمعنيون بالبلدانيات وثقافتها وبالتاريخ المحلي وأيامه وسير أعلامه ورجالاته، والذين يغلبون الشأن المحلي على ما عداه من شؤون أخرى.
لهذا يقل في أجيال من المثقفين السعوديين (من تيارات مختلفة واهتمامات متباينة) من مَّثل ويمِّثل له المؤرخون السعوديون التقليديون ومؤلفاتهم في طور النشأة ومدارج التكون، ذكرى خاصة وعبقا مميزا في شتاء ذلك الطور وربيعه وصيف تلك المدارج وخريفها. ذلك لأن ما كتبه هؤلاء ليس من مدماك قراءتهم ولا من لبنات بنيانهم الثقافي، رغم أن التاريخ والمعرفة بالتاريخ من ضمن موضوعات الثقافة العامة التي تجتذب المثقف العام وتستهوي القارئ العادي وتشد الناشئة وتفتن المراهقين.
ولا بد أن تلك الأجيال في طور نشأتها وفي مدارج تكونها، قد قرأت نزرا من التاريخ لكن من خلال مؤلفات ليس للمؤرخين السعوديين التقليديين فيها نصيب يذكر. ذلك أن مؤلفاتهم – وبالطريقة التخصصية التي كتبوها فيها – أعدت للأصناف التي عددناها سلفا.
مرادي من إيراد الملحوظة السابقة وإبرازها الإشارة إلى جانب من جوانب النقص والقصور في كتابات المؤرخين السعوديين الرواد، ومما يستوجب أن يذكر بخصوص هذه الملحوظة، أن النقص والقصور استمر في كتابات أجيال من المؤرخين الأكاديميين السعوديين، ولم يتم سدّه ومعالجته.
في السعودية، خلافا لعدد كبير من الأقطار العربية، فإن التمييز الحاصل ما بين مؤرخين تقليديين ومؤرخين أكاديميين، تمييز شكلي، يتم لغاية إجرائية ولغرض فني أو تقني، إذ إن هذا التمييز، من ناحية المضمون، ومن حيث الجوهر، غير معبر وغير دقيق، وأكاد أقول إنه غير ذي معنى.
ذلك أن كل المؤرخين السعوديين الأكاديميين بمختلف أجيالهم وعلى اختلاف الجامعات التي درسوا بها سواء أكانت في السعودية أو في العالم العربي أو في الغرب، هم مؤرخون تقليديون.
وإذا نحن يمّمنا شطر الذين اصطلح على تسميتهم بالمؤرخين التقليديين، فإن التمييز يتعثر إزاء تصنيف مؤرخ كحمد الجاسر، فالمؤرخ حمد الجاسر، من حيث الأيديولوجية والأفق والروح والروحية، ومن ناحية مداركه وتصوراته نحو التاريخ، عصري.
وإن كانت الأكاديمية هي المحك في هذا التمييز، فالمؤرخ حمد الجاسر كتب دراساته وتحقيقاته وفق أصول أكاديمية محدثة، ولم يكتبها من خلال احتذاء وتمثل أساليب الأقدمين وطرائفهم.
إذا سلّمنا بأن كل المؤرخين السعوديين الأكاديميين، هم تقليديون، وتعاملنا معهم بحسب هذه المسلمة، فإنه يصبح من اليسير أن نجد في صفوفهم من هو متفوق بوصفه مؤرخا تقليديا، وأن نجد من بينهم من هو متفوق على عدد ممن اصطلحنا على تسميتهم بالمؤرخين التقليديين.
إن القضية تحتاج إلى تفصيل، والإجمال فيها، وذلك كالقول – بإطلاق – إن المؤرخين التقليديين تفوقوا على المؤرخين الأكاديميين، لا يضعنا على الطريق الصحيح في فهمها. وفهمها يبتدئ من وضع اليد على عصبها الرئيس، ومن ثم تلمس جذورها، للوقوف على حقيقتها.
ومع هذا التحرز، أقر بأننا لو أخذنا أعمال المؤرخين التقليديين من دون الاقتصار على السعوديين، حول التاريخ المحلي منذ فترة تأسيس السعودية الحديث إلى وقتنا الحالي، وقارناها بأعمال المؤرخين السعوديين الأكاديميين، ستكون النتيجة تفوق الأعمال الأولى على الأعمال الثانية بمراحل كبيرة. فالمقارنة على هذا النحو، وبالاشتراط المذكور، لن تكون في صالح المؤرخين السعوديين الأكاديميين، ومن المحتم أنهم سيمنون بإخفاق كبير.
والإخفاق هنا، يجب أن يفهم أنه في مجمل نشاطهم العلمي وليس في أحاده، والإخفاق هنا يجب أن يفهم أيضا، أنه إخفاق جماعة واحدة وليس إخفاق أفراد متفرقين.
ذلك أن نشاط المؤرخين السعوديين الأكاديميين العلمي، إذا ما أخذناه أحادا، سنجد في ركامه، أطروحات علمية متينة، وسنجد فيه دراسات متفرقة جيدة، وسنجد من بينهم مؤرخ مجيد في معظم أعماله.
لكن أطروحتين متينتين أو ثلاثا أو أربعا أو خمسا ومثنى وثلاث ورباع من الدراسات الجيدة ومؤرخا واحدا مجيدا في معظم أعماله، لا يكفي لإقامة نهضة ثانية في مجال الدراسات التاريخية يكون عمادها المؤرخون السعوديون الأكاديميون، تضاهي النهضة الأولى التي كان عمادها أغلبية من المثقفين العرب وقليل من المثقفين السعوديين الرواد.
أما لماذا لم تقم نهضة ثانية في مجال الدراسات التاريخية، رغم مرور عقود طويلة على إنشاء هذا التخصص في الجامعات السعودية، فسأمهد لذلك بأن التاريخ فرع من العلوم الاجتماعية. والعلوم الاجتماعية في السعودية بأفرعها كافة – وأستثني من ذلك اللغة العربية وآدابها – أداءها متواضع. أي أن الأداء المتواضع لمجمل نشاط المؤرخين السعوديين الأكاديميين هو جزء من ضعف عام يلم بدائرتها الأوسع، دائرة العلوم الاجتماعية والأداء المتواضع لمجمل نشاطهم لا يمكن عزله عن الأداء المتواضع لمجمل نشاط زملائهم في الأفرع الأخرى من العلوم الاجتماعية.
وهذا الأمر من العسير علينا أن نحيد فيه السياق السياسي والديني للمجتمع والدولة في بلادنا. والإشارة إلى هذا الأمر يجب ألا تفهم أننا نعفيهم من المسؤولية الشخصية. فنحن نعلم أن كثيرا من المتخصصين في هذا العلوم تلقوا دراستهم الأكاديمية خارج هذا السياق ومحدداته، وأن منهم من هو في تكوينه الثقافي الشخصي لا يخضع للمواصفات التقليدية التي تحول بينه وبين الاستغراق في علم من العلوم الاجتماعية والتضلع في نظرياته.
لنكن صرحاء مسمين الأشياء بأسمائها، فنشير إلى أن بعض من نعنيهم بكلامنا تأثروا بالفكر اليساري، ورغم غنى هذا الفكر وحيويته من حيث التحليل والتفسير، فإنه لم يؤثر فيهم إيجابياً أو علمياً. ربما أن هذا يعود للكيفية التي تأثروا فيها بهذا الفكر، وهي كيفية غلب عليها الجانب السياسي والدعائي السطحي الفج. وأخذوا منه أسوأ مافيه كالميكانيكية ومحدودية الأفق والتزمت الثقافي والانغلاق المعرفي. وهذا أمرٌ ليس بمستغرب، ذلك أن اليسار أو الفكر الماركسي استُقبِل في السعودية عند المتأثرين به كافة، تنظيمات وافراداً، استقبالاً سياسياً ولم يُستقبَل على نحو منهجي وفلسفي أو معرفي. ومن هنا كان شحوبه وهزاله مقارنة باليسار في بلدان عربية ،كالعراق وبلدان الشام ومصر والسودان وبلدان المغرب العربي.
ولعل ما يميز المؤرخين السعوديين التقليديين عن هؤلاء جميعا في هذه الناحية، أن الشغف بالعلم وتحصيله، كان إلى درجة عالية متوفرا فيهم. لهذا فإنهم تمكنوا من الإحاطة بما يلزمهم من العلوم العربية والإسلامية، الأساسية والمساعِدة ،التي أهلتهم باقتدار في حيازة صفة المؤرخ التقليدي وحذق أدواتها، بينما أكاديميو العلوم الاجتماعية السعوديون (والمؤرخون الأكاديميون جزء منهم) كانوا في معظمهم من الطلبة المجدين الواقفين عند حدود مادُرّس لهم. ولم يكن يتملكهم ذاك الشغف الصوفي الذي يكون العلم فيه غاية في ذاته.
هذا ما يتيسر قوله بما يخص العامل الذاتي. وقد يلحظ القارئ أن العامل الخارجي، اكتفيت بالإيماء له، مع أني لا أهوّن من أثره في إعاقة العلوم الاجتماعية من النمو والتطور، وأداء الدور المنتظر منها.
وعودة إلى ما كنا بصدده، أشير إلى أنه في السعودية، وخلافا للعديد من الأقطار العربية مرة أخرى، لا توجد في أقسام التاريخ في الجامعات مدرسة للتفكير التاريخي الحديث حتى بمعنييه النهضوي والتنويري الأوروبيين العتيقين، ولا بمعناه الذي جدّ في القرنين الماضيين، ولا توجد أيضا مدرسة للتفكير التاريخي بمعناه الخلدوني التليد! وبما أن الحال، كما نزعم، فمن العبث البحث في تلك الأقسام عن مدارس واتجاهات حديثة مختلفة، على صعيد المناهج والأيديولوجيات والفلسفات. المدرسة الأيديولوجية المحدثة في مجال التاريخ والتي فسح أمامها الطريق لأن تزدهر هي مدرسة واحدة لا غير. هذه المدرسة هي مدرسة التفسير الإسلامي للتاريخ. وعلى الرغم من أن الطريق فسح أمامها وأن عددا من الأكاديميين كتبوا أطروحاتهم العلمية، انطلاقا منها وصدورا عنها، يلاحظ أن أصحابها لا يعدون من المؤرخين البارزين فيها على صعيد العالم العربي والعالم الإسلامي.
ويروعك أن المجالات التي تخصص فيها المؤرخون السعوديون الأكاديميون، هي مجالات محدودة ومحصورة، فهم إما متخصصون في التاريخ الحديث وإما متخصصون في عصر من العصور الإسلامية، وإما متخصصون في تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام. والتاريخ الحديث هنا يختزل إلى تاريخ السعودية. فلا تجد في أقسام التاريخ في الجامعات السعودية من هو معني عناية علمية متخصصة بتاريخ قُطر من الأقطار العربية الحديثة، ولا بالتاريخ العثماني ولا بتاريخ بلد من البلدان الإسلامية أو دولة من الدول الآسيوية أو دولة إفريقية أو دول أمريكا اللاتينية في العصر الحديث.
ولا يوجد في تلك الأقسام من هو معني عناية علمية متخصصة بتاريخ أوروبا الحديث وتاريخها في القرون الوسطى، وكما أن التاريخ الحديث اختزل بتاريخ السعودية وتاريخ الجزيرة العربية، فالتاريخ القديم اختزل بتاريخ الإسلام والعرب، فغاب المؤرخون السعوديون الأكاديميون المتخصصون بتاريخ الإغريق وتاريخ الرومان وتاريخ حضارات العالم القديم وشعوبه.