التورق.. اختلاف الفتاوى ينتظر الحسم
تجدد الجدل في أوساط المصرفية الإسلامية بعد تأييد مجمع الفقه الإسلامي الدولي لتحريم التورق. ولم يقتصر الأمر على مجرد الخلافات الفقهية، بل امتد إلى تخوف البنوك الإسلامية من قيام العملاء باستغلال تلك الفتاوى في رفع دعاوى تجيز لهم وقف سداد القروض التي حصلوا عبر نظام التورق على اعتبار أنها غير مجازة شرعا.
الخلاف بدأت وجهته بين علماء كبار لهم مكانتهم في الفتوى الشرعية؛ ما جعل البنوك وعملاءها في حالة من الترقب. حيث أكد بيان مجمع الفقه الإسلامي في قراره رقم 971 «5/91 » المنعقد في الشارقة بتاريخ من 1 إلى 5 جمادى الأولى 0341 هـ الموافق 62-03/4/9002 م على عدم جواز التورق
(المصرفية الإسلامية) تفتح صفحات الجدل الفقهي حول التورق في هذا العدد، وتستكمله بحوارات متخصصة في الأعداد القادمة..
* على هامش تأييد مجمع الفقه الدولي لتحريم التورق ثار الجدل بين الفقهاء، حيث يرى بعضهم أن تلك الممارسات محرمة شرعاً، في حين يرى آخرون أنه جائز وأن من يحرمونه لا يفرقون بين التورق المنظم وغير المنظم.
ويكمن المأزق الحقيقي الذي وجد العاملون في المصرفية الإسلامية أنفسهم فيه بتحريم التورق في أن المقترضين من البنوك بنظام التورق سيلجأون إلى رفع قضايا في المحاكم وديوان المظالم. وفي الغالب ستصدر أحكام تجيز لهم وقف سداد أقساط القروض بعد قرار تحريم التورق بكافة أشكاله ومسمياته التي استحدثها بعض البنوك.
وطرح الجدل الدائر حول التورق مجموعة من الأسئلة حول دور البنوك المركزية التي سمحت للبنوك بتكوين هيئات شرعية لها، تقوم بإصدار فتاوى تجيز بها برامج البنوك المختلفة وعلى رأسها تلك المتعلقة بالقروض.
#5#
أخطر من الربا
ومن جانبه اعتبر الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين -الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي- أن عمليات التورق التي تتم في البنوك الإسلامية مخالفة للشريعة الإسلامية. وأوضح أن طريقة تمويل القروض في تلك البنوك التي يطلق عليها "تورق إسلامي" تعتبر أكثر خطورة من الربا؛ كونها تستغل عاطفة الناس الذين يتوقون لتجنب التعاملات الربوية عن طريق التعامل مع البنوك الإسلامية. ووصفها بأنه عملية تحايل واضحة للعيان، حيث إنها تسير في ذات الاتجاه الذي تتبعه القروض الربوية الصريحة.
وأكد أن تلك الممارسات تسيء إلى صورة المصرفية الإسلامية بشكل عام لدى الغرب. وفند المبررات التي كان يحلو للبعض تقديمها لتبرير تلك العمليات بزعم أن ضغط الواقع وعدم وجود البنوك والمعاملات الإسلامية الحقيقية في الماضي هو ما دفع إلى ظهور مثل هذه المنتجات. وقال إن الأمر اختلف في الوقت الراهن، حيث إن الطريق بات مفتوحاً أمام المؤسسات المالية الإسلامية للعمل على إيجاد حلول شرعية حقيقية.
وأضاف أن البنوك بشكل عام لا تحتاج إلى تلك المنتجات ومن ثم يمكنها التخلص منها بسهولة دون أن تلحق بها أية أضرار. ودعا للتعامل بالمعاملات الشرعية التي وصفها بأنها مجال أوسع للربح دون الحاجة إلى استخدام منتجات مخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية.
ويمسك سلطان السعدون - الخبير في التمويل الإسلامي - بطرف الحديث، حيث يؤكد أن المصرفية الإسلامية يمكنها أن تقدم منتجات أكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية دون أن يكون بها مخالفات شرعية. وربط هذا بتوافر البنية التحتية التي تساعد تلك الصناعة على أداء تلك الأدوار. وأعرب عن ثقته في أن ثورة تصحيحية ستقوم بقيادة العلماء ورجال الأعمال المخلصين سوف تعمل على تصحيح مسيرة المصرفية الإسلامية وتحولها بشكل تدريجي نحو منتجات أفضل من الناحية الشرعية والاقتصادية. وشبه التورق بحصان طروادة الذي يخشى أن يتسبب في تقويض المصرفية الإسلامية من الداخل، كما ألقى باللائمة على التورق - كصيغة تمويل مثيرة للجدل- في إثارة حملات التشكيك التي تواجهها تلك الصناعة بشكل عام. ويوضح السعدون أن أهم أسباب الجدل الدائر حول التورق هو أنه عبارة عن تمويل مهيكل من عدة عقود؛ كل عقد بمفرده لا خلاف عليه، ولكن الربط بين هذه العقود من خلال عقد مركب هو التورق المنظم الذي تطبقه بعض البنوك الإسلامية. ويتولد عن تلك العملية عقد لا يختلف كثيراً عن التمويل بالفائدة؛ فالذين يجيزون العقد يعدونه مكوناً من عقود شرعية جائزة ولا ضير من اجتماعها. أما بالنسبة لمن يحرمونه فيعتبرونها عقداً مركباً للتحايل على الربا.
#3#
#4#
قرار سقيم
وفي جبهة المجيزين للتورق يقف الشيخ نظام يعقوبي - عضو المجمع الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية - الذي يؤكد من جانبه أن التورق جائز شرعاً وأن الكثير من الفقهاء قد أباحوا التعامل به. وأوضح أن من يحرمونه لا يفرقون بين التورق المنظم وغير المنظم. وشدد على أنه لا يمكن تحريم التورق دون المعاملات المصرفية الأخرى كالمرابحة والمضاربة والسلم وغيرها، مشيراً إلى أن الحرمة سببها التنضيض.
وانتقد اليعقوبي المجمع الفقهي قائلاً إنه لم يناقش القضية بشكل مستفيض وإن نظام المجمع لا يستمع إلى ملاحظات الباحثين قبل إصدار القرارات. وذهب إلى حد وصف قرار التحريم الأخير بأنه قرار سقيم متهماً المجامع الفقهية بأنها بيروقراطية تركز على الجانب السياسي أكثر من غيره.
وأبدى د.عبدالسلام بن داود العبادي – أمين عام مجمع الفقه الإسلامي الدولي - استغرابه لتلك الاتهامات، مشيراً إلى أن قرارات المجمع تؤخذ بالاجتهاد الجماعي من قبل ممثلين لأكثر من 43 دولة إسلامية. واستنكر وصف اليعقوبي لقرارات المجمع بالسقيمة لمجرد مخالفتها رأيه.
وفيما يتعلق بمسألة التورق أشار إلى أن الاجتماع الذي عقد مؤخراً في الشارقة وأيد فيه المجمع تحريم التورق حضره أكثر من 250 فقيهاً، ونوقشت فيه أكثر من 200 ورقة بحثية في شتى المسائل المتعلقة بالمصرفية الإسلامية. وبيّن أن التورق استحوذ على 15 بحثاً منفصلاً تمت مناقشتها ومن ثم خلص المؤتمر إلى تأييد تحريمه. وقد تم استكتاب خمسة عشر من كبار الفقهاء والاقتصاديين في موضوع التورق لعرض ما توصلوا إليه في المؤتمر.
وفي ضوء هذه البحوث والدراسات المستفيضة والمناقشات التي عقدت على هامش المؤتمر اتخذ المجمع قراره المؤيد لتحريم التورق. ولم يكن القرار جديداً من نوعه، حيث سبق أن اتخذه مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي.
ولفت إلى أن المجمع أوصى المعاصرة بضرورة التزام البنوك الإسلامية بالبحث عن حلول تلبي الحاجات الاقتصادية وتلتزم بالأحكام الشرعية. كما حث السلطات التشريعية في الدول الإسلامية على إيجاد الإطار القانوني المناسب والبيئة القانونية الملائمة والحاكمة لعملية التصكيك بمختلف جوانبها وتحقيق الكفاءة الاقتصادية والمصداقية الشرعية.
#2#
إعادة نظر
وفي البحرين صدر مؤخراً كتاب يناقش تلك القضية المثيرة للجدل يحمل عنوان "البنوك الإسلامية.. النظرية والتطبيق والآفاق المستقبلية". وصدر عن مركز البحرين للدراسات والبحوث وشارك في إعداده نخبة من أساتذة الشريعة والاقتصاد. وخلص الباحثون إلى ضرورة إعادة النظر في صيغة تمويل منتج التورق معتبرين إياه منتجاً تدور حوله شبهات كثيرة، وأن تلك الصيغة إن لم تكن محرمة - كما يرى فريق - فهي مكروهة أو مذمومة.
ويقول د. محمد نعمان جلال - المشرف على تحرير الكتاب - إن هناك عدة صور للتورق والمرابحة. وعلى الرغم من أن هذين المفهومين قديمان إلا أنه يجب على بعض الهيئات الشرعية التوسع في تطبيقهما بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية. ويعرض الكتاب بحثاً للدكتور عبدالستار إبراهيم الهيتي - الأستاذ بجامعة البحرين - جاء فيه أن التورق صيغة تمويل فيها شبهة كبيرة ناصحاً بعدم التعامل فيها ضمن تسهيلات البنوك الإسلامية. وبرر رأيه بأن تلك الصيغة مما يشملها النهي عن بيع العينة باعتبار أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني وليس للألفاظ والمباني اعتماداً على قاعدة سد الذرائع. واعتبر أن هذه الصيغة من التمويل ربما تكون وسيلة للربا المحرم صراحة، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
هيئة المحاسبة تضع شروط الإجازة
وفي حلقة أخرى من حلقات الخلاف حول التورق خرج د. حسين حامد حسان - أستاذ الفقه وعضو العديد من الهيئات الشرعية - بتصريحات مفادها أن القول بعدم مشروعية التورق هو قول فقهاء العصر بالإجماع وأن تطبيقات التورق في البنوك لم تكن دقيقة وشابتها بعض الشبهات. كما أن التورق لا يحتمل الخسارة التي ينطلق منها الاقتصاد الإسلامي في تحمل نسب المخاطرة والخسارة؛ ما دفع العلماء إلى الإجماع على تحريمه. وأكد حسان أن هذا الإجماع على تحريم التورق يدعمه قرار من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية.
ولكن الهيئة خرجت ببيانات تنفي فيها أن تكون قد أقرت بتحريم التورق أو أن أياً من أعضاء مجلسها الشرعي قد أصدر مثل هذا الحكم. واشتعل الجدل بخروج د. محمد نضال الشعار - الأمين العام للهيئة - مؤكداً أن معيار التورق الذي أصدرته الهيئة كأحد المعايير الشرعية ينظم عملية التورق ويجيزها بشروطها وضوابطها التي اتفق عليها أعضاء المجلس الشرعي الخاص بهيئة المحاسبة والمراجعة. وأكد الشعار أن حسان وهو أحد أعضاء المجلس الشرعي الخاص بالهيئة كان من الموافقين على إصدار معيار التورق.
كما خرج أيضاً الشيخ عبدالله بن سليمان المنيع -عضو هيئة كبار العلماء في السعودية وعضو العديد من الهيئات الشرعية للبنوك - مطالباً الدكتور حسان بتعريف التورق المصرفي المنظم الذي صدرت بمنعه القرارات الشرعية كما سبق أن أكد. وقال المنيع إن رؤية حسان عن التورق أثارت لغطاً وبلبلة بشأن التورق وهل هو محرم مطلقاً أو أن التحريم يتناول صوراً من تطبيقاته. وبين المنيع أن العديد من المجامع الفقهية قد أصدرت قرارات بإجازة التورق معتمدة على ما ذكره جمع من علماء المسلمين قديماً وحديثاً بشأن صحته وجواز الأخذ به. وأضاف أن التورق المصرفي المنظم الذي صدر قرار بمنعه هو في الواقع تعامل صوري، حيث إن البنك يبيع بضاعة يدعي ملكيتها ولا يتيسر للعميل رؤيتها وهو جاهل بنوعها وصفتها فضلاً عن أن العميل لا يهمه معرفتها ولا التأكد من ملكية البنك لها.
وأضاف المنيع أن تلك السلع محل التورق تكون في مخازن بدول أجنبية من المراكز التجارية العالمية، وأغلب الظن أن البنك لا يمتلك تلك السلع، كما يتعذر التأكد من حقيقة امتلاكه لها. ويطلب البنك من العميل توكيله ببيعها ووضع ثمنها في حساباته على أن يوقع على عقد البيع والوكالة وغير ذلك من الأوراق المتعلقة بعملية التورق لتتم التغطية الصورية. وأوضح أن المجمع الفقهي للرابطة وافق على قرار بمنع التورق الصوري لأنه ليس تورقاً، وإنما هو تعامل ربوي مغلف بتلك الإجراءات الشكلية التي يزعم بها أنه تورق مباح من الناحية الشرعية.
وأعرب المنيع - في رده على الدكتور حسان - عن أمنيته أن يحرص الأخير على عدم التعميم عند تناول التورق وأن يعرّف الصيغ الممنوعة التي يقال إنها تورق في حين أنها لا تمت له بصلة. وأشار إلى أن العديد من البنوك استجابت لآراء هيئاتها الشرعية وامتنعت عن التوكيل عن العملاء ببيع سلعهم. وحصرت السلع التي تبيعها على العملاء في سلع محلية يستطيع العميل رؤيتها ومعرفة وصفها والقدرة على قبضها. ولفت إلى أنه ما دام التورق مستكملاً لشروط البيع وأركانه منتفية عن موانع صحته وليس من إجراءاته ما يخالف الشريعة فهو من البيوع الشرعية المعتبرة المباحة.
حيثيات تحريم التورق الصوري
ونفس الرأي تبناه د. مقبل الذكير الذي أكد أن تحريم التورق يتعلق بتطبيقه المصرفي الحالي المسمى بالتورق المصرفي المنظم وليس في أصله. وفند الذكير نقاط الخلاف؛ فأشار إلى أن من يحرمونه يرون فارقاً بين التورق الحقيقي الجائز والتورق المصرفي المنظم. وقد رصد هذا الفريق عدة مخالفات شرعية استندوا إليها في رأيهم بالتحريم، أولها أن العميل في هذا النوع من التورق لا يقبض السلعة ثم يبيعها بنفسه، حيث إنه لا يملك عملياً إلا خياراً واحداً وهو أن يوكل البنك في بيعها وهذا على خلاف التورق الحقيقي الذي يكون العميل بالخيار بين أن يحتفظ بالسلعة أو يبيعها بنفسه في السوق نظراً لأنه قبضها قبضاً يمكنه من التصرف فيها كيفما يشاء. وإذا كانت بعض البنوك تضع خيارات أمام العميل إلا أنها خيارات شكلية. وثاني تلك المخالفات أن التورق بهذا الشكل يعتبر حيلة على الربا لأن السلعة المسماة في العقد جاءت بطريق الحيلة لإضفاء الشرعية على العقد ليس إلا. وفي هذه الحالة لا يسأل العميل عن السلعة، بل لا يعلم حقيقتها لأنها غير مقصودة أصلاً وإنما المقصود من المعاملة هو النقود. أما ثالث المآخذ التي يعرضها الذكيري فهي أن عقود التورق المنظم تجري مع سلع موصوفة أي غير معينة؛ لأنها غير مملوكة للبنك. ومن هذه المآخذ أن هذه العقد يؤدي إلى العينة الثلاثية التي حرمها الشرع؛ ففي السلع المحلية كالسيارات مثلاً يشتري البنك السيارة من المعرض ثم يبيعها على العميل بالآجل، ثم يوكل العميل المعرض ببيعها ثم يبيعها المعرض على البنك الذي يبيعها بدوره لعميل آخر. وفي كل هذه المراحل لا تتحرك السيارة من مكانها؛ فالمعاملة تكون مالاً بمال، وأن السلعة ما هي إلا حيلة.
وثمة مأخذ وضعه مؤيدو تحريم التورق في الحسبان، وهو أن كلاً من البنك والعميل يبيعان السلعة قبل قبضها، حيث إن قبض صورة من شهادة الحيازة للمعادن أو صورة البطاقة الجمركية للسيارة لا يكفي في تحقق القبض الشرعي؛ لأنها لا تعد وثيقة بالتملك. وكذلك يتحفظ المنادون بتحريم التورق على أن العميل لم يتحمل مخاطر السلعة أو ضمانها؛ فهي لم تدخل في ضمانه. وخلص هذا الفريق إلى أن العقد ملفق من جملة من رخص المذاهب التي قد يسوغ الخلاف في واحدة منها إذا انفردت. أما اجتماعها - كما يورد الذكيري - فأحرى بالعقد أن يكون صورياً لا حقيقياً؛ فالحكم على العقود يجب أن يكون بمجموعه لا بأفراده .