القانون الضرير

أعلنت هيئة السوق المالية صدور مجموعة قرارات نهائية من لجنة الاستئناف في منازعات الأوراق المالية, ومن ضمنها قرار ضد رجل الأعمال محمد بن إبراهيم بن محمد العيسى، والقاضي بإدانة العيسى بقيامه بالتداول على سهم الشركة السعودية للفنادق، بناء على معلومة داخلية حصل عليها بحكم عضويته في مجلس إدارة الشركة, وإلزامه بدفع المكاسب التي حققها نتيجة هذه المخالفة إلى حساب الهيئة البالغة أكثر من ثلاثة ملايين, وفرض غرامة مالية عليه ومنعه من العمل في الشركات التي تتداول أسهمها في السوق لمدة ثلاث سنوات. وقضية تسريب المعلومات من قبل مجالس الإدارات أو كبار التنفيذيين قضية تستدعي العقاب الرادع لمن يتجرأ عليها, ولا شك في أن من يقوم بذلك يخون الأمانة التي أوكلت إليه من قبل الجمعية العمومية, وقد غش بهذا الفعل المجتمع والمتعاملين, ومثل هذه القرارات تعزز هيبة السوق المالية ككل وهيئة سوق المال كجهة رقابية بشكل أخص.
ولكن لماذا تحصل الهيئة على المكاسب المالية التي تمت استعادتها من المخالفين؟ لماذا لا يتم توزيعها على المتضررين؟ ما المسوغ الشرعي لحصول الهيئة على هذه الأموال, خاصة أنها ليست غرامات بل هي مكاسب نتجت عن خسائر لمتعاملين آخرين؟! وبالتالي من حق المتعاملين الحصول عليها, وإذا لم يُعرف هؤلاء المتعاملون تحديداً وهو أمر غير قابل للتصديق في ظل استثمارات الهيئة في أنظمة تعقب شديدة التعقيد, فعلى الأقل أقترح أن تمنح هذه المبالغ جمعيات خيرية لمصلحة المتعاملين ''مجهولي الهوية'' الذين خسروا أموالهم في السوق, فخسارتهم في الدنيا ستعوض على الأقل في الآخرة . في الوقت ذاته الذي أؤكد فيه تأييدي هذه القرارات إلا أنني لم أستطع أن أخفي امتعاضي وحزني من القرار الصادر على الأستاذ العيسى, وحتى لا أناقض في آخر مقالي ما بدأته في أوله, فلا اعتراض على قرار الهيئة, بل على العكس فأنا من أشد المؤيدين لقرارات التعزير التي تصدر ضد المخالفين, لما فيها من تعزيز لنزاهة السوق, وكبح جماح أي تلاعب أو ممارسات تجنح بالسوق عن جادتها, بل أستغرب من قلة الأحكام برغم حجم التعاملات المرتفع, ولا أشكك في نزاهة أو عدالة قرارات هيئة سوق المال في جملتها وعلى الأخص قرارات لجان الفصل في منازعات الأوراق المالية لعلمي بأنها تخضع لكثير من التمحيص من المختصين والمراجعة من الخبراء. مصدر هذا الامتعاض والحزن هو قناعتي الأكيدة بأن هذا الرجل (محمد العيسى) لا يستحق العقوبة التي فرضت عليه, ليس لأن الحكم جائر أو أنني أشكك في شيء ما, ولكن لأنني أعرف حرص الرجل على سمعته قبل كل شيء ويشهد له كبار رجال الأعمال قبلي, فهل يضحي رابع أكبر مساهم في السوق السعودية بسمعته مقابل مكاسب قدرها ثلاثة ملايين ريال, وهو الذي تبلغ استثماراته في السوق السعودية ''فقط'' سبعة مليارات ريال؟ أما الأمر الأهم الذي يؤكد عدم استحقاق العيسى العقوبة حرصه الشديد على الشركة السعودية للفنادق تحديداً ومساهميها ومصالحها, وسأذكر هنا مثالين فقط شهدتهما على الرجل خلال تعاملي مع شركة الفنادق قبل سنوات, ففي فورة الأسهم وقبل الحظر على الشركات المساهمة الاستثمار في السوق كان العيسى يشجع مجلس الإدارة على الاستثمار في السوق وعند اعتراض المجلس كان يضمن شخصياً أي خسائر تتكبدها الشركة من جراء هذه الاستثمارات, كما أن العيسى كان يعطي الشركة الفرصة (غير العادلة له شخصياً) لإدارة الفنادق التي يملكها أو له شراكة فيها على الرغم من أن أسعار المنافسين أكثر تنافسية وأفضل وأكثر عائداً له من الشركة السعودية للفنادق.
لا أشك أن الخاسر الأكبر من منع العيسى عن العمل في الشركات المتداولة هي هذه الشركات نفسها, فهو رجل حريص وداعم للشركات التي يعمل من خلالها, وصاحب رأي حصيف ونظرة ثاقبة, وتتمنى أي شركة أن يعطيها من رأيه ووقته وجهده, ولا أدل على ذلك من تعليقه على القرار الذي لم يزبد فيه ويرعد بل أعلن قبول القرار واستمراره وتشجيعه الاستثمار في السوق ووكل أمره إلى الله.
هذا كله يؤكد المقولة المعروفة أن ''القانون أعمى'', فالنظام لا يفرق بين الكبير والصغير والغني والفقير والوجيه والوضيع, في الوقت نفسه ترسل الهيئة رسالة مهمة وجادة للمتعاملين في السوق بأن على الجميع ترتيب أوضاعهم, والحرص على صحة تعاملاتهم في السوق, خاصة أصحاب المصالح من أعضاء مجالس الإدارات وكبار التنفيذيين في الشركات المدرجة, وسيطبق النظام على الجميع حتى لو كانت المخالفات غير مقصودة, ولو كان المخالف حسن النية, والأهم من ذلك أن النظام سيطبق حتى لو كان المتعامل كبيراً ووجيهاً ومؤثراً .. فالقانون أعمى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي