وكالات التصنيف الائتماني.. لا عزاء للشفافية

وكالات التصنيف الائتماني.. لا عزاء للشفافية
وكالات التصنيف الائتماني.. لا عزاء للشفافية
وكالات التصنيف الائتماني.. لا عزاء للشفافية

تظهر وكالات التصنيف الائتماني كدليل ينبئ المستثمرين بقوة الاقتصاد أو المؤسسة، وتضع أرقاما لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها، تجتهد كثيرا لكنها في المحصلة تبقى أسيرة لمملكة المعلومات ولحضرة الشفافية، لكن حالة التذاكي المهني جعلت هذه الوكالات أشبه ما يكون بوزارة دفاع رقمية تقصف وتصيب أهدافها في العمق، ليهتز الاقتصاد أو يتراجع وينخفض أو تعلو أسهمه إلى غير المتوقع.. هل في الأمر لعبة وتدخل شخصي ومصالح مشتركة.. أم ماذا؟ لذا هل نحذر وكالات التصنيف أم نعمل على بناء مؤسسات تصنيف مستقلة خاصة بنا؟
في مقال شهير بعنوان "مآسي موديز"، رأى الكاتب توماس فريدمان أن العالم لا يزال ثنائي القطبية، أي به قوتان عظميان:
الأولى الولايات المتحدة، والأخرى وكالة موديز للتصنيف. وقال إن أمريكا تستطيع تدمير دولة من خلال قصفها بالقنابل، أما موديز فإنها تستطيع أن تدمر أية دولة بتخفيض تصنيف سنداتها.
وتتجه أصابع الاتهام بضراوة إلى وكالات التصنيف الائتماني العالمية، حيث أثيرت في الآونة الأخيرة العديد من الشكوك والمخاوف بشأن مدى مصداقية وشفافية تلك الوكالات.
ولم تأت تلك الشكوك من فراغ بعد أن كشفت الأزمة المالية العالمية عن وجود عوار كبير اعترى عمليات التصنيف التي تجريها تلك الوكالات، وكذلك الإجراءات المتبعة في هذه التصنيفات. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن عدداً من الخبراء الاقتصاديين وضعوا مؤسسات التصنيف ضمن أهم الأسباب التي أدت إلى حدوث الأزمة المالية كما كشفت مجلة weekend magazine الأمريكية. وفي نفس الوقت تعالت الأصوات المطالبة بضرورة وجود هيئة رقابية لتقييم وكالات التصنيف الائتماني نفسها بعد أن بات واضحاً أن عملها يفتقر في الكثير من الحالات إلى الشفافية. وتزايدت هذه المطالب مع الاتهامات التي وجهت إلى تلك الوكالات محملة إياها جزءاً من المسؤولية عن الأزمة المالية وتداعياتها، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ووضع تقرير لشركة Ernest & Young العالمية عن أهم أسباب الأزمة المالية احتلت مؤسسات التصنيف المرتبة العاشرة إلى جانب العوامل الأخرى مثل أزمة الرهن العقاري، وانهيار المؤسسات المالية وغيرها. ورأى التقرير أن تلك الوكالات تنال أكثر من حجمها، حيث إنها لا تعدو كونها "ألعوبة" في يد من يدفع أكثر.

الحاجة إلى تقييم ذاتي
وشهدت دبي مؤتمراً في الشهر الماضي تناول بالتحليل الوضع الراهن لتلك المؤسسات وكم التجاوزات الفادحة التي ترتكبها. وفي مشاركته أشار الشيخ ناصر المعلا – العضو المنتدب والرئيس التنفيذي لبنك أم القيوين الوطني - إلى أن وكالات التصنيف عليها أن تقوم بعملية تقييم ذاتي بعد أن كشفت الأزمة العديد من الأخطاء في التصنيفات التي تمنحها. ومن أبرز الأمثلة على هذه التجاوزات حصول بنك ليمان براذرز على تصنيف مرتفع، إلا أنه سرعان ما أصبح قاطرة الانهيارات الكبرى في المؤسسات المالية العالمية. ووضع حصول البنك على تصنيف AAA بعلامة 10/10 علامات استفهام عديدة حول مصداقية هذه الوكالات، إذ إن البنك حصل على ذلك التصنيف قبل أيام من انهياره وإعلان إفلاسه. وتساءل المعلا: "لماذا لم يتم تخفيض تصنيف البنك إلى الحد الأدنى ليكون نذيراً بوجود مشاكل، وأن البنك على وشك الانهيار"؟. وألمح إلى أن هناك معايير غير دقيقة تحكم عمل هذه الوكالات، ومنها أن موقع المؤسسة المالية الجغرافي يكون له دور مهم في تحديد تصنيفه؛ فإذا كان البنك في أمريكا أو أوروبا فإنه من السهل أن يحصل على أعلى التصنيفات والعلامات حتى إن كان مستوى أدائه متواضعاً بالنسبة للمعايير التي تضعها الوكالات. وعلى النقيض فإن وجود البنك في إحدى دول العالم الثالث كفيل بأن يحجب عنه التصنيفات المتقدمة مهما بلغت درجة مطابقته المعايير المفترضة. وهناك العديد من الحالات التي كان فيها الحصول على تصنيف مرتفع حلماً بعيد المنال، على الرغم من أن المؤسسة المالية تتمتع بملاءة عالية وميزانية قوية بحسب الشيخ المعلا. ويضيف أن البنوك الأمريكية والأوربية ومنها من حصل على تصنيفات عالية هي التي أشهرت إفلاسها وليس مؤسسات العالم الثالث وبنوكه التي حققت نتائج طيبة، وأعلن العديد منها توزيع أرباح نقدية.

##تفكيك وكالات التصنيف

#2#

ويؤكد د. عبدالله باعشن – رئيس مجلس إدارة الفريق الأول للاستشارات المالية - أن هناك ممارسات خاطئة تعتري عمل وكالات التصنيف؛ وذلك لوجود تضارب مصالح، وعدم التزام بالاستقلال المهني. وكشف أن هناك رشاوى يتم تقديمها في صورة هدايا أو امتيازات مادية يحصل عليها ممثلو الوكالة التي تقوم بالتقييم. وشبه الموقف الذي تمر به تلك الوكالات بما مرت به شركات المراجعة العامة؛ وهو ما أدى إلى سقوط شركة إنرون. وترجع خطورة الأمر إلى أن القوة والنفوذ المهني اللذين أصبحت عليهما وكالات التصنيف يعتبران بمثابة عامل ضغط مهم، حيث أصبح تقييمهما مؤثراً في الشركات والدول؛ ومن الممكن أن تؤثر في أية شركة بمجرد تخفيض تصنيفها. وقد أدى هذا إلى وقوف العديد من حكومات الدول الغربية موقفاً صارماً من وكالات التصنيف؛ لأنها باتت متيقنة من أن نتاج عملها ما هو إلا عملية ترويجية بالنسبة لمؤسسات، وتدميرية بالنسبة لشركات أخرى. ويرى باعشن أن مراجعة القوانين التي تحكم عملية التصنيف قد تؤدي إلى تفكيك الوكالات، حيث إن هناك قناعة بعدم جدواها، إذ إنها محكومة برؤية محددة، في حين أن هناك توجهاً للأخذ برؤى متعددة.
ويضرب المحلل المالي محمد الشميمري مثالاً بأن المؤسسات المصدرة للمنتجات المالية وبصفة خاصة الرهونات العقارية والسندات دأبت على استخدام التصنيف الصادر عن وكالات التصنيف المختلفة للترويج لمنتجاتها باعتبارها منخفضة المخاطرة ومأمونة، مع عدم الأخذ في الاعتبار أية مخاطر أخرى قد تطرأ على هذا المنتج.

#3#

أما د. أحمد البنا – خبير اقتصادي - فلا يضع كل وكالات التصنيف في سلة واحدة؛ فهناك قسم منها يعمل وفق المعايير الأساسية والقوانين الدولية مثل الملاءة المالية، وبازل1 و2. وعلى الجانب الآخر يوجد قسم يتعلق بشركات التصنيف الائتماني غير المنضبطة، التي كان لها أثر ملحوظ في انهيار مؤسسات مالية وبنوك عالمية، وبالتالي لتفاقم الأزمة المالية نظراً لأنها لا تلتزم بالممارسات المهنية المنضبطة والأعراف والقوانين الدولية. وقد قامت تلك الوكالات بمنح عديد من البنوك والمؤسسات المالية شهادات تصنيفية غير صحيحة؛ ما أدى إلى حصول تلك البنوك على قروض وتسهيلات تفوق بكثير ملاءتها المالية. وقد أدى هذا بالتالي إلى تدهورها وانهيارها بطريقة غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد. أما الخبير سليمان المزروعي فيطالب بضرورة وجود رقابة ذاتية داخل وكالات التصنيف، كما يطالب بفرض عقوبات مشددة من قبل البنوك المركزية ووزارات المالية تجاه وكالات التصنيف، لا سيما تلك التي يثبت عدم التزامها بالمعايير الأساسية للتقييم.

##التدقيق المحاسبي في قفص الاتهام

وفي المقابل يوجد من يرى أن الذنب لا تتحمله وكالات التصنيف وحدها في خروج تصنيفات مخالفة للواقع. ومن هؤلاء محمد النعمي – الرئيس التنفيذي لشركة موارد للتمويل الإسلامي - إذ يؤكد أن المشكلة الأساسية قد تبدأ من شركات التدقيق المحاسبي قبل أن تصب في وكالات التصنيف العالمية. وضرب مثلاً بشركة تدقيق محاسبي تقوم بتقييم 20 حساباً مصرفياً من بين 70 ألف حساب لدى أحد البنوك، وتنتقي بعد ذلك عشرة حسابات من بينها. وبذلك تخرج الميزانيات مختلفة بصورة كبيرة عن الواقع الفعلي لأداء وعمل البنك. وللقضاء على تلك المشكلة يجب على شركات المحاسبة أن تدقق 10 - 15 في المئة من إجمالي عدد الحسابات الموجودة بالبنك. ويدعو شركات التصنيف العالمية بأن تأخذ في الاعتبار مدى التزام سياسة الحكومة، ومدى إسهام قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة وقطاعات الصناعة والتصدير، والقوانين والتشريعات في الاقتصادات المحلية وذلك حتى يتحقق أكبر قدر من الشفافية عند التصنيف. ومن جانبه يدافع هيثم عرابي – رئيس شركة جلف مينا للاستثمارات البديلة - بأن وكالات التصنيف تلتزم بالمعايير المهنية والقوانين الدولية. ويشدد على أن هذه الوكالات من حقها أن تعيد تقييم التصنيفات التي تمنحها بين الحين والآخر وفقاً للمعطيات الجديدة والمستجدات الاقتصادية العالمية. وقال إنها يمكن أن تغير التصنيف الذي منحته إذا رأت تغيراً في الملاءة المالية للبنك أو حال زيادة الالتزامات عليه، وعدم قيامه بدفع تلك الالتزامات في أوقاتها المحددة. وطالب بأن يتم تعزيز المصداقية في تلك الوكالات بإنشاء هيئة رقابية عالمية تدقق في عمل هذه الوكالات، وفي التصنيفات التي تمنحها.
ولا تقتصر الانتقادات الموجهة إلى وكالات التصنيف الائتماني على الآراء الشخصية للخبراء؛ فقد قدمت المفوضية الأوروبية مقترحاً لتنظيم عمل تلك الوكالات في إطار حزمة من الاقتراحات التي ترمي للخروج من الأزمة المالية العالمية. وأكد شارلي مكريفي – المفوض الأوروبي لشؤون الأسواق والخدمات الداخلية - أن القواعد الجديدة مصممة لضمان رفع جودة التصنيفات الائتمانية، وضمان عدم تأثرها بتضارب المصالح. وأشار إلى أن هذه الوكالات ستعمل بكامل طاقتها بما يتطابق مع القواعد الأوروبية ذات الصلة، كما سيجري الإشراف عليها من قبل مشرفين تابعين للاتحاد الأوروبي. ولن تكون قادرة آنذاك على الزعم بأن التصنيف الائتماني ما هو إلا آراء واجتهادات، بل سيكون عليها الانصياع للقواعد الأوروبية الصارمة التي تستهدف ضمان عدم تأثر التصنيفات بتضارب المصالح، كما تضمن حرص الوكالات على منهجية أساليب التصنيف والعمل بشفافية. وتأمل المفوضية الأوروبية أن تتحول المعايير الائتمانية للاتحاد الأوروبي لمعايير عالمية >

الأكثر قراءة